غفرانك ربي

 🕋  غفرانك ربي  🕋


          لا يكاد يمر شهر أو أقل حتى أتلقى خبر وفاة أحد أبناء البلدة ممن أعرفهم حق المعرفة ، و كيف لا و قد قضيت معهم ما يقرب من ستين سنة ، و لم أغادرهم إلا مؤخرا لظروف عائلية ، فكنت كلما سمعت نعي أحدهم إلا و تعود بي الذاكرة إلى الوراء ، فتجدني أستعرض حياة الفقيد مستحضرا بعض المواقف التي جمعتني به فيما مضى ، أغلبها كانت مواقف جميلة لا يشوبها خلاف ، و هذا ما يبعث في النفس خصوصا حين أتلقى الخبر نوعا من الانكسار و الحزن ، فتراني لحظتها أستعرض أسماء المتوفين و ما أكثرهم ، و كأني بالموت يحصد الأرواح تباعا و يتوعد الأحياء أن دورهم قادم لا محالة .

اللهم في هذا الشهر المبارك ارحم من غادرنا إلى دار البقاء ، فهم السابقون و نحن اللاحقون و هادم اللذات لا يستثني صغيرا و لا كبيرا ، و اجعل خير أعمالنا خواتمها ، و لا تتوفانا إلا و أنت راض عنا يا أرحم الراحمين يا رب العالمين .


            ✏ خاطرة رمضانية لزايد وهنا   ✏

دفين أغمات

                         دفين أغمات


        هذه الصورة لضريح بأغمات ، و ما دامت

أغمات غير بعيدة عن المدينة التي أسكنها ، و لم يسبق لي أن زرتها ، قررت أن أزورها و أقف عن كثب على أحداث ما يزال صداها يرن في أذني ،

و ما تزال ذاكرتي تحتفظ بالكثير عن هذه القرية التي طالما حدثت تلامذتي عنها في دروس التاريخ و عن دورها كمحطة في الطريق التجارية

الغربية التي كانت تعتمدها القوافل التجارية نحو بلدان جنوب الصحراء ، و رغم طولها فقد كانوا يتحملون مشاق السفر عبرها و يفضلونها عن  الطريق الوسطى المارة عبر سجلماسة رغم قصرها طلبا للأمن ، حيث أن إمارة بني مدرار و بعض القبائل الخارجة عن حكم الأدارسة التي كانت تقطن قريبا من سجلماسة كانت تعترض قوافلهم ، و لم يتم القضاء على هذه الإمارات المتمردة إلا في عهد المرابطين ، فعاد للطريق الوسطى المارة عبر سجلماسة نشاطها التجاري بفعل قصرها 

و سهولة مسالكها .

دخلت أغمات فإذا هي بلدة صغيرة جدا ، محاطة بحقول أشجار الزيتون و بعض الأنواع الأخرى من الأشجار الغير المثمرة ، مما يضفي عليها جمالا في طبيعتها الخضراء الخلابة ، بها بضعة متاجر توفر للساكنة ما تحتاج إليه في معيشها اليومي ، السواد الأعظم من سكانها فلاحون و أغلب نشاطهم يتمثل في العناية بالمشاتل من أغراس متنوعة

و أزهار مختلفة الأنواع و الألوان و الأشكال تجذب إليها الناظر و تخلب لبه ، إذ يرى من النباتات ما لم يره من قبل .

غير أن ما أكسب أغمات شهرتها و جعلها قبلة للسياح المغاربة و الأجانب إضافة إلى تاريخها

الضارب في القدم هو وجود ضريح " المعتمد بن عباد " بها ، و هو المكان الذي كنت أرغب في زيارته لا للتبرك ، فأنا لا أزور أي ضريح إلا إذا كان

دفينه شخصية تركت بصمة في التاريخ و زيارتي له ليست قصد التبرك و إنما لأقف عن كثب على

منجزاته و أستزيد معرفة بأمور كثيرة قد أجهلها

فأجدها مكتوبة في مخطوطات أو أستقيها ممن

لهم ذراية واسعة بهذه الشخصية ، خصوصا و أن

معاينة المكان بهدوئه يوحي للزائر الباحث بأن

يستحضر محطات من حياة الدفين ، و هو الأمر

الذي شعرت به ، فقد تذكرت سلسلة من دروس التاريخ التي كنت ألقنها لتلامذتي حول الممالك

الطائفية بالأندلس خلال القرن الخامس الهجري

و لا داعي للخوض فيها ما دام القارئ يعلم عنها 

الكثير ، و لكن هذا القبر أمامي هو لأحد ملوك

الطوائف الذي انتهى به الحال أن يدفن بأغمات

و إلى جانبه قبر زوجته و ابنه ، فهو للتذكير فقط :

أبو القاسم المعتمد على الله محمد بن عبَّاد ولد سنة 431 هـ و توفي سنة 488 هـ هو ثالث وآخر ملوك بني عبَّاد على اشبيلية  بالأندلس، تولى الحكم بعد أبيه  أبي عمرو المعتضد سنة 461 هجرية ، تزوج من السيدة اعتماد الرميكية .

كان المعتمد بن عباد حين آل إليه حكم إشبيلية في الثلاثين من عمره، شابا ، فارساشجاعا و شاعرا موهوبا، وأميرا جوادا ، يحب الأدب ومجالسة أهله فقرب إليه في بلاطه أدباء و شعراء من صفوة ذلك العصر  من أمثال أبي بكر بن عمار ، وابن زيدون وابن اللبانة ، وابن حمديس الصقلي ، كما  كانت زوجته اعتماد الرميكية شاعرة كذلك ، تتمتع بجمال فاتن و براعة في الشعر والأدب ، وكانت إشبيلية حاضرة دولته آية في الروعة والبهاء ، تزدان بقصور بني عباد وقوادهم وكبار رجال دولتهم .

غير أن أطماع المعتمد بن عباد في سبيل التوسع على حساب ممالك المسلمين الأخرى جعله يتحالف مع ألفونسو السادس ملك قشتالة على حساب إخوانه المسلمين، ولم يجد في نفسه غضاضة وهو يقوم بدفع الجزية للملك القشتالي و هذا التحالف

أشعل نار الغضب في نفس قائد المرابطين يوسف

بن تاشفين و هو من اجتاز إلى الأندلس دفاعا عن الممالك الاسلامية ضد النصارى ، فأمر  بحمل المعتمد بن عباد وآل بيته إلى منفاهم بالمغرب ،  وخرج الناس لتوديعهم محتشدين وقد ملأ الدمع أعينهم ، وذابت قلوبهم حسرة وألما على ملكهم الذي أدبرت عنه الدنيا ، فخرج هو وأسرته على هذه الصورة المخزية بعد الجاه والسلطان ، وقد سجل الشاعر الأندلسي الكبير ابن اللبانة هذا المشهد الحزين بقصيدة مبكية جاء فيها:


حان الوداعُ فضجّت كل صارخة

              وصارخٍ من مُفداة ومن فادِي

سارت سفائنُهم والنوْحُ يتبعها

            كأنها إبل يحدو بها الحادي

كم سال في الماء من دمعٍ وكم حملت

          تلك القطائعُ من قطعاتِ أكبادِ


وبعد أن وصلت السفينة إلى المغرب أقام المعتمد وأسرته أياما في طنجة، ثم أُخذوا بعد ذلك إلى مكناسة، وقضوا هناك أشهرا قبل أن يرحلوا إلى منفاهم  بأغمات .

وفي أغمات عاش المعتمد عيشة الذل و المهانة ، كسير القلب ، يُعامَل معاملة سيئة، ويتجرع مرَّ الهوان ، و هو  ينظر إلى بناته الحسناوات المدللات يغزلن الصوف ليحصلن على القوت، ولكنه كان يتجلد ويتذرع بالصبر، ويلجأ إلى شعره، فينفس عن نفسه بقصائد مُشجية مؤثرة . 

حدث أن دخلت عليه بناته في سجنه يوم عيد ، فلما رآهن في ثياب رثة ، تبدو عليهن آثار الفقر والفاقة ، انسابت قريحته بشعر شجي حزين فأنشد :


فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا

         فساءك العيدُ في أغمات مأسورًا

ترى بناتك في الأطمارِ جائعة

          يغزلْن للناس لا يملكْنَ قِطميرا

برزْن نحوَك للتسليمِ خاشعةً

         أبصارُهنَّ حسيراتٍ مكاسيرا

يطأْنَ في الطين والأقدام حافية

          كأنها لم تطأْ مسكا وكافورا


واشتدت وطأة الأَسْرِ على اعتماد الرميكية زوجة المعتمد، ولم تقوَ طويلا على مغالبة المحنة ، فتُوفيت قبل زوجها ودُفنت بأغمات على مقربة من سجن زوجها ، أما زوجها المعتمد فقد عاش بعدها أربع سنوات حتى أنقذه الموت من هوان السجن وذل السجان ،  فلقي ربه في (11 من شوال 488 هـ = 1095م) ودُفن إلى جانب زوجته .

سبحان الله تذكرت كل هذا و أنا أنظر إلى قبره 

و قبر زوجته و ابنه ربيع ، و أجول بنظري في كل ما يحيط بهم ، و أرى تقلب الدهر بالإنسان ، فمن

ملك تنصاع له الدنيا إلى سجين ذليل ، شعرت شعورا غريبا و كأنه يحدثني هو نفسه ،  فبعد أن أتيت أغمات فرحا بزيارتها منشرح الصدر لرؤيتها ، ها أنا أغادرها منقبض النفس و لا أدري سببا لهذا الانقباض غير ما تفعله الدنيا بأهلها . 

فوجدتني أردد قول أبي البقاء الرندي :

لكل شيء إذا ما تم نقصان

         فلا يغر بطيب العيش إنسان 

كانت هذه القصيدة مما واسيت به نفسي و أنا 

في طريق العودة .


       ✏بقلم الباحث عن الألم :  زايد وهنا ✏



ورقة عن بوذنيب

             


مقترح لورقة تقنية للتعريف بتاريخ بوذنيب


العنوان :  

 بوذنيب المجال و الإنسان 


الإهداء :


المقدمة :


الباب الأول  :  منطقة كير عبر التاريخ 


الباب الثاني : النشأة و أصل التسمية 


الباب الثالث : الأجناس البشرية 


الباب الرابع  :  بوذنيب قبل الحماية

     الفصل الأول : الحياة السياسية

     الفصل الثاني : الحياة الاقتصادية

     الفصل الثالث : الحياة الاجتماعية 

     الفصل الرابع : الحياة الثقافية 

    الفصل الخامس : الحياة الفنية 


الباب الخامس : بوذنيب إبان الحماية 

   الفصل الأول  :  المقاومة و الحياة السياسية

    الفصل الثاني : الحياة الا قتصادية 

    الفصل الثالث : الحياة الاجتماعية 

    الفصل الرابع : الحياة الثقافية 

     الفصل الخامس : الحياة الفنية 


الباب السادس : بوذنيب بعد الاستقلال

    الفصل الأول : الحياة السياسية

    الفصل الثاني : الحياة الاقتصادية 

     الفصل الثالث : الحياة الاجتماعية 

     الفصل الرابع :  الحياة الثقافية

     الفصل الخامس : الحياة الفنية


الباب السابع : رجالات بصموا تاريخ بوذنيب من

النشأة إلى اليوم .

المجال الأول : المقاومة

المجال الثاني : العلم و الأدب 

  ( علماء ، فقهاء ، كتاب ، شعراء الفصيح ، شعراء         الملحون .....)

المجال الثالث : الفنون ( الموسيقى ، الغناء ، الفكاهة ......)


خاتمة 


الغيور المناضل

                   💪  المناضل الغيور 💪


         إني مخبركم عن رجل من أبناء بلدتي ، له في النفس من التقدير و الاحترام نصيب كبير .

رجل مهذب أنيق مثقف ، و لكن ما استأثرني فيه

أكثر من غيره هو غيرته الشديدة على قريته

( أولاد علي ) التابعة لجماعة واد النعام ببوذنيب ،

فهذا الرجل و إن كان غيورا على وطنه و جهته 

و إقليمه و جماعته إلا أن حبه الكبير لقريته

( أولاد علي ) جعله يسخر كل طاقاته البدنية 

و الفكرية ليراها تحقق طفرة و تخطو خطوة 

و لو بطيئة نحو الانعتاق من التهميش ، و أن يشعر

أهلها بنوع من السعادة و يتنعموا بما حرم منه

سلفهم ، لذلك تراه يبذل ما في وسعه عسى يظفر

بما يحلم به رغم الاكراهات و العراقيل التي لا تخفى على أحد .

عرفته أول مرة عندما كان تلميذا بالمدرسة الابتدائية حيث انتدب ليمثلها في إحدى المسابقات الثقافية و التي كان لي شرف تسييرها،

و لاحظت في هذا الطفل بوادر فطنة و رجاحة عقل تنم عنها نظراته ، و ربما أعجب بطريقتي

في الحديث و في أسلوب التسيير الذي كنت آنذاك أعتمده لتحفيز التلاميذ .

و ها هو ذاك الطفل الذكي قد أصبح مربيا حكيما

و أستاذا مقتدرا و مثقفا غيورا ، و كان اللقاء بيني

و بينه من جديد في مهرجان ( أولاد علي) الذي

يعود إليه الفضل أولا في تنظيمه  بدعم من  شباب القرية و رجالاتها الذين اصطفوا عن بكرة أبيهم إلى جانبه و أبانوا عن مؤهلات ما كانت تخطر على بال أحد ، إنهم بصبرهم  واتحادهم و تفانيهم

و حسن ضيافتهم و دقة تنظيمهم استمالوا قلوب

الناس الذين حجوا إلى هذه القرية من كل حدب

و صوب و الذين انبهروا بهذا التنظيم المحكم 

من أول نسخة ، و دون سابق تجربة ، ثم توالت

نسخ أخرى لم تكن أقل من سابقاتها ، بنفس النهج و الحزم ، و اعتاد الناس ترقب موعد المهرجان

بشوق و حماس ، و لكن لأسباب أو أخرى توقف

هذا النشاط غير أن أثره بقي عالقا بالذاكرة .

و نظرا لتواضع هذا الرجل ، فقد كان يستشيرني

في أمور عديدة تخص المهرجان في نسخه تلك، مما أشعل في دواخلي نار الغيرة على أن يكون المهرجان ناجحا فوضعت كل ما لدي من طاقات بين يديه ، و قدمت ما استطعت و فوق ما استطعت ليمر المهرجان في أجواء غاية في الدقة و أن يسعد و يستفيد الوافدون عليه ، و تكرم وفادتهم أيما تكريم ، و ذاك ما تحقق و الحمد لله بفضل هذا الرجل و أبناء هذه القرية الجميلة ، مما ترك صدى كبيرا ، امتدت شهرته شرقا و غربا ، 

و صار مضرب المثل بين الناس .

ختاما أظن أن عزيزي القارئ قد تعرف على  هذا الرجل الذي أكثرت عنه الحديث ، و لكن و بدون مجاملة فهو يستحق الثناء و التقدير ، إنه الأستاذ المحترم     "  عبد الرحيم دحاوي "

كما أتمنى أن يعود المهرجان إلى سابق عهده ،

فكل عمل هادف و مفيد كهذا يجمع كلمة الأهالي 

و يذيب الصراعات و ينشر دفء المحبة ، هو عمل

مرغوب و صاحبه مأجور .


               ✏  محبكم في الله زايد وهنا  ✏


رجلان من عيار ثقيل

                🔍 رجلان من عيار ثقيل 🔍


         كلما عادت بي الذاكرة إلى بلدتي ، و هزني

الشوق و الحنين إلى أهلها إلا و توالت أمام ناظري

ذكريات حلوة و ما أكثرها ، و لكن أجملها عندي 

تلك التي لها علاقة بالمجال الثقافي ، فالأنشطة الثقافية ببلدتي كانت و إلى وقت قريب منارا

يشع نوره و يسطع بريقه بفضل بعض الجمعيات

التي جعلت تربية الناشئة و تنوير عقولهم أسمى

أهدافها ، و لم تقتصر أدوارها على ذلك بل أخذت

على عاتقها توعية الساكنة بجميع فئاتهم 

و شرائحهم و بمختلف أعمارهم و أجناسهم من خلال تنظيم لقاءات ثقافية توعوية هادفة ، و هذا كله بفضل ثلة من رجالات البلدة المثقفين و الذين تطوعوا بنية صادقة لخدمة الساكنة باعتبارها الرأسمال البشري الذي يساهم في تنمية البلدة .

رغم وجود جمعيات كثيرة و بتوجهات مختلفة ،

إلا أن الجمعيات الرائدة في مجال الثقافة و التي

أبانت عن براعة و اقتدار ، و تركت بصمات 

و آثارا في أوساط المثقفين و حتى الغير المثقفين

هي جمعيات قليلة تعد على رؤوس الأصابع 

و لا غرو إذا قلت أن عددها لا يتجاوز أربعا .

الحقيقة التي لا يمكن لأحد أن ينكرها أن رواد هذه الجمعيات الأربع  و القيمين عليها ، ضحوا بأوقاتهم

و قدموا أعمالا هادفة لا زالت أصداؤها تردد في

مجالس الناس و أحاديثهم .

كنت و بكل تواضع أحد المنخرطين في جمعية

الواحة للتربية و الثقافة ، و لم أمتنع يوما من

المشاركة في أعمال الجمعيات الأخرى متى طلب

مني ذلك لأنني أولا و أخيرا أعمل لصالح البلدة

و في كل ما من شأنه أن يرفع قدرها ، غير أن

لي استثناء أود أن أعلنه حتى أكون أكثر صدقا ،

فبفعل احتكاكي الدائم بصديقين عزيزين ، و نظرا

لما اكتشفته فيهما من سعة في زادهما المعرفي

 و نبل خلقهما من صبر و سماحة و نكران للذات

كل هذه الخصال أوثقت الصلة بيني و بينهما 

بروابط متينة خصوصا و أننا نسعى جميعا 

لتحقيق نفس الأهداف و لو برؤى تتفق في

كثير و قد تختلف في قليل و لكنها موسومة بحسن النية .

لعلك أخي القارئ تستعجل في قراءتك لتعرف من

هذان الرجلان ، إنهما الصديقان الفاضلان :

" مصطفى لفضيلي و مولاي محمد بنشريف "

رغم فارق السن بيننا ، فقد لمست فيهما رجاحة عقل و حسن خلق ، يدبران الأمور بحكمة 

و رصانة ، لهما غيرة لا تصفها الأقلام على البلدة ، و يعملان المستحيل للسير بها نحو الأمام ، لا لغرض في نفسيهما أو مصلحة شخصية يسعيان

خلفها و إنما يناضلان عسى أن تتزحزح البلدة من

 دائرة التهميش و الإقصاء .

هذان الرجلان و أمثالهما من رجالات بلدتي الذين

قدموا الكثير و إن لم أذكر الجميع في هذا المقال ، 

فليس نكرانا لخدمات الآخرين و لا لحزازة في النفس فكلهم إخواني و أصدقائي ، و لكن اقتصرت الحديث عن هذين اللذين عملت معهما لوقت طويل ، و الشكر و الامتنان لكل غيور ساهم و لو بالقليل في سبيل إشاعة الوعي و الفضائل بين ساكنة بلدتنا الحبيبة .

ختاما من لا يشكر الناس ، لا يشكر الله ، و قمة الجحود أن يتنكر الإنسان لمن أسدى إليه فضلا ،

أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم ،

و أحمده جل في علاه و لا أحصي ثناء عليه .


               ✏  محبكم في الله  زايد وهنا   ✏

 

هو غير ما تعتقد

 🔍   هو غير ما تعتقد  🔍


         رجل ذو بنية جسمانية تثير الدهشة ، تجعل من يصادفه ممن لا يعرفه حق المعرفة يتجنب الاحتكاك به درءا لردة فعله التي يتوقع أن تكون بنفس قوة بنيته ، خصوصا 

و أنه سريع الانفعال شديد الغضب إذا لاحظ من أحدهم تجرؤا للمس بكرامته أو إذا  شعر بإهانة لمبدإ من مبادئه التي لا يتزحزح عنها قيد أنملة . و لكن أولئك الذين عاشروه 

و احتكوا به يعرفون عنه ما يجهله الآخرون ، فو رجل في جوهره مسالم على جانب من حسن الخلق ، يكره النقائص ، 

و يصغر في عينيه من يأتيها و لو كان من أقرب المقربين ، 

لا يعرف النفاق إلى نفسه سبيلا ، و هي النقيصة التي يبغضها و أصحابها أشد البغض ، يجهر بما يراه حقا و صوابا و لا يخشى في ذلك لومة لائم .

لعل منهجه هذا في الحياة جعله لا يصحب إلا الأخيار ممن يستريح إليهم و يثق فيهم و يقاسمهم آماله و آلامه ، يعمل بما يشيرون عليه إذا استنصحهم في أمر ما دون تردد .

كنت واحدا من هؤلاء الذين عاشروه منذ زمن بعيد ، و لا أخفي سرا أنني كنت قبل أن أحتك به أظنه يحمل من الغلظة و الفضاضة ما ينطبق و بنيته الجسمية ، و لكن مع مرور الوقت و من خلال التقرب شيئا فشيئا منه ، تأكدت أن هذا الرجل يحمل قلبا سليما ، ظاهره كباطنه ، يتصرف ببراءة ، 

و أجمل خصلة فيه أنه سرعان ما يشعر بالندم و الأسى إذا أحس أنه أساء التصرف مع أحدهم ، فلا يهنأ له بال و ربما قد يبيت ليلته صاحيا يؤنبه ضميره ، فلا يتنفس الصعداء حتى  يطلب الصفح ممن أساء إليه و يأخذ بخاطره ، و هذه الخصلة لا يتصف بها إلا من كان بين جوانحه قلب سليم من الغل 

و الحقد .

ختاما أظن أن القراء من أبناء بلدتنا قد علموا الشخص الذي أعنيه ، و بالنسبة للذين يجهلونه فهو و بكل بساطة الموظف المتقاعد بوزارة الشبيبة و الرياضة ، و المدرب المقتدر في كرة القدم و الحكم المنصف إذا أدار مباراة لها ، هو الصديق     "  عبد القادر بنقدور "


      ✏  بقلم من لا يحابي أحدا  زايد وهنا  ✏

رجال على العهد

                   ⛏  رجال على العهد ⛏


         رن هاتفي المحمول ، فإذا المتصل السيد

" الهواري " ابن بلدتي المقيم حاليا بالرباط .

تبادلنا التحايا و بعد أن اطمأن كل منا على أحوال

الآخر ، ذكرني السيد " الهواري " بواقعة كانت قد

حدثت لوالدينا رحمة الله عليهما منذ زمن بعيد ،

كانت في وقتها واقعة مخيفة و صارت بعد ذلك 

ذكرى جميلة تخلد للصداقة المتينة بين الوالدين

المبنية على الثقة و الوفاء و الشهامة و التعاضد

الذي كان يجمع بينهما .

رجلان تحابى في الله ، يكافحان من أجل توفير 

لقمة العيش الحلال ، نسأل الله جل في علاه أن

يجمع بينهما في مستقر رحمته .

لا أحد من أهالي البلدة يعرف الشخص المقصود

إذا سميته باسمه الحقيقي " محمد بن امحمد "

و لو أضفت اسمه العائلي " بوزياني " خاصة

و أن العوائل التي تحمل هذا الاسم العائلي كثيرة

و تتشابه أسماء أفرادها ، مما يصعب معه التعرف

بسهولة على " محمد بن امحمد بوزياني " ، 

و لكن بمجرد أن تقول اللقب المشهور به و هو 

 " الموتشو " حتى ينجلي اللبس ، لأن الجميع 

يعرفه و لا حاجة لك لإضافة تعريف آخر .

هذا اللقب الذي التصق به منذ صغره ، أيام 

الاستعمار ، ذاك أنه خرج للعمل في سن مبكرة 

بإحدى الضيعات التابعة للمستعمر ، و كان مشغله

الإفرنجي يناديه بهذا اللقب " الموتشو " و التي

تعني الطفل في لغة الإفرنجة ، فأصبح هذا اللقب

مصاحبا له في أوساط أهل البلد ، و لم يثبت يوما

أن تبرم أو تسخط عند سماعه ، فهو في قرارة نفسه يعتبر هذا اللقب وساما يفتخر به لأنه يدل

على نضج و فطنة طفل ناضل من أجل العيش

الكريم رغم صغر سنه و لم يرض لنفسه أن يعيش

عالة على غيره بل بالعكس كان هو المساعد لأهله

و لولا شجاعته و صلابة عوده و حزمه في العمل

ما قبله النصراني و هو في تلك السن .

أما عن الواقعة فأحداثها كانت في بدايات السبعينات من القرن الماضي ، حيث اجتاح فيضان

واد " الكرابة " البلدة و تسبب في هدم المنازل

المحادية لضفتيه ، و باختصار تم إحصاء المتضررين و قامت الدولة ببناء بيوت لهم كتعويض في حي سمي ب " المنكوبين " نسبة

للنكبة التي حلت بأصحابه .

بنيت جدران المنازل بالطوب و التابوت ، و لكن بدون أسقف و لا أبواب و لا نوافذ و من غير تبليط

لأرضيتها ، و بعد مدة سلمت لأصحابها و هي على تلك الحال ، مما أثار استياء الناس الذين يرونها

غير صالحة للسكن ، و ليس لديهم و هم الفقراء

الطاقة المادية لإتمام إصلاحها ، فأجمعوا قولهم على أن يتطوع ثلاثة رجال منهم لزيارة السيد

العامل بالرشيدية و رفع تظلمهم له عساه يجد لهم

حلا لما يعانونه ، و استقر رأيهم على أن يساهم كل

متضرر بمبلغ زهيد ( خمسة دراهم ) كمصاريف التنقل لهؤلاء الثلاثة المتطوعين ، و ما دام السيد   " بوزياني محمد بن امحمد " ( الموتشو ) يملك متجرا بسيطا ، فقد جعلوه أمينا و دكانه مقرا لجمع تلك المبالغ البسيطة .

ما لم يكن في حسبانهم و هم البسطاء أن جمع

المبالغ المالية أمر محظور و ممنوع ، و هو ما جعل

السلطات المحلية آنذاك تضيق عليهم الخناق 

و تتهمهم بتهم لم تخطر على بال أحد منهم 

و خصوصا السيد الذي تجمع لديه الأموال ، 

تم استدعاء الرجل الذي حكى للسلطات كل شيء

بتفصيل و تمت المناداة على الآخرين ، و هنا كانت

المفاجأة ، فقد تبرأ المتضررون  الآخرون مما وقع و صرحوا أنهم لم يتفقوا على شيء مما ذكر إلا

رجل واحد هو والدي الذي صرح بكل شيء ، ولم

يكتف بذلك بل أعلن أمام السلطات أنه شريك

لبوزياني في كل ما يتهم به و أنه مستعد أن يتلقى 

معه نفس العقاب و لا يمكن أن يتخلى عنه .

علمت السلطات بعد ذلك أن هؤلاء البسطاء ما

فعلوا إلا بدافع البراءة طلبا لإنصافهم و ليست لهم نوايا أخرى ، فتم إغلاق الملف .

ختاما لعل الموقف الذي أبان عنه والدي في تلك

الواقعة و وقوفه بجانب صديقه هو ما جعل السيد بوزياني ( الموتشو ) يشيد بصداقته و شهامته ،

و بقدر ما عظم قدر والدي في نفسه بقدر ما سقط

قدر الآخرين في عينيه .

مات " محمد بن امحمد البوزياني " و مات 

" عسو وهنا " عليهما الرحمة و بقيت المواقف شاهدة و خالدة في أذهاننا ، نتذكرها من حين لآخر فنرفع أكف الضراعة إلى الله سبحانه و تعالى أن يتغمدهما و أموات المسلمين بالرحمة 

و المغفرة .


 ✏بإيعاز من الهواري بوزياني و بقلم زايد وهنا✏

 

أديب في الخفاء

                    ✏  أديب في الخفاء  ✏


         لم يخطر ببالي يوما أن هذا الشاب الذي

أعرفه منذ زمن بعيد هو روائي بارع ، حتى فاجأ

الجميع بإصدار روايته الأولى بعنوان :

  "  بين اللحاء و اللحى "

فصاحب هذه الرواية موضوع الحديث هو الصديق المخلص السيد " علي عديدو " .

 رجل مثقف ملم بكثير من المعارف و العلوم ، دائم المطالعة خصوصا باللغة الفرنسية ،و رغم أن ظروف العمل --- بحكم المهنة التي يزاولها في قطاع حساس --- لا تترك له الوقت الكافي للمطالعة ناهيك عن التأليف ، فهو الأمر الذي جعلني أستبعد أن تكون له هذه الملكة في التأليف باللغة العربية و بهذا الإتقان و الجودة المبهرين ، هذه الموهبة التي أبان عنها دون سابق إخبار ، مما أضفى عليها طابع المفاجأة، فكانت حقا و دون مجاملة مفاجأة من العيار الثقيل ، فقد لقيت إقبالا لدى عدد كبير من القراء و استحسنها النقاد بل أشادوا بها و ببراعة صاحبها في السرد بأسلوب بليغ لا يقل روعة و متعة عن انتاجات فحول الروائيين ، و مما يزيدنا و صاحبها فخرا أنها أول عمل روائي و أول تجربة ، إلا أنها حازت الحظوة 

و نالت الإعجاب .

قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن هذا الإطراء على عمل هذا الصديق هو من باب المحاباة و المجاملة،

و لكن أقول و بكل صدق و موضوعية أن العمل

يستحق كل الثناء و التنويه ، و من انتابه الشك في ذلك فما عليه إلا بقراءة الرواية ، حتى يتأكد

من صدق ما يقوله النقاد ، و له كامل الصلاحية في

إبداء رأيه ، لأن صاحب الرواية يحب النقد البناء

و يستريح للأراء المفيدة .

و لعل تنظيم السادة الأساتذة الجامعيين بكلية الآداب و العلوم الإنسانية بني ملال ، جامعة السلطان مولاي سليمان للندوة الوطنية الموسومة

ب " قراءات لسانية و نقدية في رواية بين اللحاء

و اللحى لمؤلفها علي عديدو " لدليل قاطع و برهان

ساطع على جودة المنتوج و أحقيته بالبحث 

و النقد ، و قد كان لي شرف المشاركة في هذا اللقاء بورقة بحثية بعنوان :

 " الأسلوب في رواية بين اللحاء و اللحى ميثاق

معقود بين السارد و المسرود " .

و نظرا لقيمة هذا العمل الروائي الذي ذاع صيته

في أوساط القراء المتميزين ، تم كذلك تقديم 

و توقيع الرواية بالمركب الثقافي محمد المنوني

بمكناس بدعم من مديرية وزارة الثقافة و بحضور

ثلة من الدارسين و النقاد الباحثين الذين و بكل

موضوعية نوهوا بالعمل و صنفوه ضمن الانتاجات

الأدبية الجديرة بالقراءة و النقد .

ختاما أقول و بكل صدق أن هذا العمل أحيى فينا

 الأمل من جديد ، فكل التشجيع و التنويه لهذا الرجل الذي يجمع بين مكارم الأخلاق و النبوغ الأدبي و لولاه و أمثاله ممن يحملون الهم الثقافي ، و يعيدون للأدب مجده و فخره و ينيرون من حين لآخر عتمة التفاهة التي سادت و وجدت مرتعا لها في عقول التافهين لغزا اليأس نفوس الغيورين على الأدب و الفنون . 


               ✏ بقلم غير متحيز لزايد وهنا  ✏

أفضل ميراث

                     🌱   أفضل ميراث  🌱


           رجل ورث عن أبيه رحمه الله الكثير من الأشياء المحمودة ، حتى يخيل إليك أنك تجالس

شيخا كبيرا في السن ، استقى من الحياة دروسا

و عبرا جعلت منه إنسانا ذا مبادئ لا يتخلى عنها ، و لا يقبل عنها بديلا مهما كان الظرف ، ينافح من

أجلها و ينقلها بكل أمانة لأبنائه و تلامذته .

إنه بكل بساطة عبد المجيد الصديق المخلص ،

كانت صداقتنا امتدادا لصداقة والدينا عليهم رحمة الله ، نتفق كثيرا و نختلف أحيانا قليلة

و لكن الصداقة متينة لا يغير مجراها اختلاف

الرأي ، و لشدة تمسكه بمواقفه كنت ألقبه 

ب " المناغس " ، و هذا كله لا يفسد للود قضية ،

فالرجل حازم في الجد و مرح في الهزل ، لا تمل

من حديثه ، مواظب على صلاته ، له غيرة على

دينه و لغته مفتخر بوطنيته ، يجسدها في عمله

التربوي التعليمي ، تخرج على يده عدد كبير من

التلاميذ الذين يشهدون له بالكفاءة و الإخلاص

و غرس القيم الإنسانية النبيلة في نفوسهم مما

أثر فيهم و حصنهم من الأهواء المضلة و جعل منهم رجالا صالحين .

باختصار ، ما قلته في حق هذا الرجل ما هو إلا

غيض من فيض ، و لولا خوفي من الملل الذي قد يشعر به القارئ لأطلقت العنان للقلم و قلت الكثير

مما لم أفصح عنه .

رعيا لهذا المربي المقتدر و لأمثاله ممن يسعون 

لتربية النشء و تعليمه و جعل كل ما قدمه خلال

هذه المدة الطويلة في ميزان حسناته يوم يلقى

خالقه ، و أستغفر الله إن أخطأت سهوا في شيء 

من سيرة هذا الرجل .

        

                ✏  محبك في الله زايد وهنا   ✏

أشرطة بالأبيض و الأسود

                   

         🎥  أشرطة بالأبيض و الأسود  🎥


              أصبحت مؤخرا كلما اختليت بنفسي ،

أسترجع شريط ذكريات الطفولة ، و أتمعن في ذلك الماضي البعيد بكل تجلياته ، و كثيرا ما أتساءل عن سبب الغوص في زمن مضى و ولت أحداثه 

حلوها و مرها و أقول في نفسي ما الفائدة من تذكارها ، فأوعز ذلك للمرحلة العمرية المتقدمة التي أعيشها فربما تكون  هي السبب ، فإن لم تكن هي فلعله عامل الاغتراب عن الأهل و الصحاب يجبر صاحبه على الوحدة ، و في الوحدة يهيم الخيال و تتيه الأفكار و تتوالى الأحداث الماضية ،

و لم لا يكون السبب هو هذه المدنية المتحضرة في نظر معاصريها ، و ما جرته على الناس من بؤس و شقاء بفعل انجرافهم مع طوفان الماديات

و تهافتهم على مغريات الحياة بأي وسيلة و لو فاقت قدراتهم .

هذا التهافت وراء سراب الدنيا ، أفقدهم الشعور بالقناعة ، ففقدوا معها كل أسباب السعادة حيث ضرب بالقيم الإنسانية النبيلة عبر الحائط و التي كانت فيما مضى بمثابة العمود الفقري الذي يضبط 

تصرفات الناس و سلوكاتهم ، فغاب عن هؤلاء الحياء و استشرى الفساد و أهمل طلب العلم 

و تميعت الفنون الجميلة و انحطت الأذواق 

و سادت التفاهة و أصبح روادها نجوما لا يشق لهم غبار في الميوعة و المجون ، مما جعل الغيورين على القيم يعيشون غربة و يتأففون مما آل إليه الحال . 

فاعترى الناس فراغ روحي و وجداني ، و لم يعد يهمهم إلا المصالح الشخصية ، و نسوا أنهم استبدلوا السعادة بالتعاسة و ضيقوا على أنفسهم

من حيث لا يشعرون .

و لعل هذه الدوافع كلها مجتمعة هي التي جعلتني

أعود في أحيان كثيرة بالذاكرة إلى ذلك الماضي

التليد ، و أقارنه بما نعيشه حاليا ، فتتضح لي

الهوة الشاسعة بين الأمس و اليوم ، فيهزني الشوق و الحنين و تتوالى أشرطة الذكريات السارة أمام عيني ، و حتى تلك المؤلمة منها آنذاك لم تكن

بنفس ألم و مرارة ما أراه اليوم .

قبل أن أطلق عنان القلم لكتابة هذه التأملات ،

كنت أستمع إلى إحدى القصائد من شعر الملحون 

و هي قصيدة " سيدنا يوسف "  التي استوحى الشاعر الناظم وقائعها من القرآن الكريم و صاغها بطريقة زجلية في قالب جميل و مؤثر ، تسهل على المستمع البسيط فهم القصة جيدا .

و هنا تذكرت كيف أنني و منذ طفولتي أحفظ بعضا من أبياتها ، و الفضل في ذلك يرجع إلى 

رجل كان يجوب البلدات و القرى ، يضع متاعه على ظهر حماره و يحمل آلته الوترية ( الوتار )

و يتسول بأبواب المنازل و هو يعزف و ينشد 

تارة قصيدة " سيدنا يوسف " و تارة أخرى قصيدة " سيدنا إبراهيم " أو قصة " العجوز و ابنها علاء " و كنا نحن الأطفال نتبعه و نتنقل معه في الحي من بيت إلى آخر ، لنستمع و نستمتع ، و كم كنا نتمنى أن تتأخر صاحبة البيت قليلا قبل أن تتصدق عليه مما تيسر لديها حتى يسترسل في الإنشاد . و بفعل التكرار حفظت بعض الأبيات

التي رسخت بذهني فصرت أرددها في منزلنا 

و في الطريق إلى المدرسة ذهابا و إيابا ، و لعل تلك الأزجال و ما كنا نستمع إليه في المذياع من أغاني الزمن الجميل ، كل هذا كان بمثابة البذرة الأولى التي أنبتت في وجداني حب الغناء المتزن و الشعر الرصين ، فأصبحت مولعا و شغوفا أهيم بالشعر فصيحه و زجله ، مما دفعني في مرحلة الشباب و الكهولة للبحث في مجال شعر الملحون الذي وجدت فيه حقا أسرارا و مكنونات نفيسة لا

يتذوقها إلا من سبر أغوارها ، و عرفت كذلك أن انتشار قصائد الملحون في كثير من حواضر وطننا 

كان بفضل ذاك المتسول و أمثاله من الحكاواتيين

و الحلايقية الذين عملوا على نشره و تحبيبه للناس و تسهيل حفظه و ترديده خصوصا و أن هذا النوع من الأمداح كان هو الغالب في ذلك الزمن الذي لم يكن للتفاهة فيه حظ يذكر . 


                           ✏   بقلم  زايد وهنا   ✏

ابن هنين

 🎻   ابن هنين  ⚽


         تحدثت في العديد من المقالات عن أشخاص كان لهم و ما يزال الأثر البالغ في الذاكرة ، منهم من قضى نحبه و منهم من لا زال ينتظر ، فالرحمة للأموات و الصحة و العافية للأحياء . 

لم أترك أحدا ممن احتفظت ذاكرتي بشيء يميزه سواء كان صديقا أو أحد أبناء البلدة التي أنتمي إليها ، إلا و وفيته

حقه قدر الاستطاعة موضحا الجوانب المضيئة في حياته 

و التي تفرد بها دون غيره ، و لم أتحيز يوما لأحد فأثني على من لا يستحق أو أجحف حق من يستحق قريبا كان أو بعيدا ، و لم أكن أختار اختيارا عشوائيا ، بل أتحرى الدقة و الصدق ، فلا يحضى عندي بالتقدير و التبجيل إلا من أسدى لهذه البلدة و لأهلها خدمات جليلة يشهد له بها العدو قبل الصديق ، كل في مجال معين ، و هذا لا يعني قطعا أنني وفيت الجميع حقهم ، فربما هناك آخرون أغفلت الحديث عنهم و السبب بكل بساطة أنني لا أحتفظ لهم بشيء في ذاكرتي و لا أعرف عنهم شيئا مما يصعب التكهن بالحديث عنهم و إن فعلت فربما أجحف في حقهم و أسقط في أخطاء قد تسيء إلى سيرهم أكثر مما تحسن ، و هذا ما لا أسعى إليه .

اليوم قد حان دور رجل من أعز أصدقائي ، قضينا معا كل مراحل العمر من الطفولة إلى حدود كتابة هذه الأسطر ، جمعت بيننا صداقة متينة و صحبة دائمة ، أما الصداقة فما زالت قائمة ثابتة ، و أما الصحبة فقد فرق بيننا السعي وراء لقمة العيش فأضحت المسافة بيننا بعيدة ، و لم نعد نلتقي إلا قليلا و لكننا نتواصل عبر الهاتف .

كان الأجدر بي أن أبدأ به قبل الآخرين نظرا للروابط المتينة التي تجمعنا ، و لكن لا أخفي سرا أنه كلما هممت بتناول سيرته يأبى القلم أن يسعفني لأنني لا أعرف من أين سأبدأ 

و إلى أين سأنتهي و ماذا سأقدم و ماذا سأؤخر في سيرة رجل لازمني و لازمته منذ الطفولة إلى الآن ، و لو أطلقت العنان للقلم ، لنفذ حبره دون أن أوفيه حقه ، و لكن ارتأيت أن أذكر القليل خير من أن أترك الجميع و بالله التوفيق .

إنه رشيد الذي أناديه ب " ابن هنين " و هو نفس اللقب الذي يناديني به ، و قد اعتاد كل منا مناداة الآخر بهذا اللقب و لا داعي لذكر السبب .

كان رشيد أول طفل تعرفت عليه سنة 1972 عندما انتقلت أسرتي للسكن في الحي الذي يقطنه رشيد ، قادمة من الحي الذي تهدمت منازله المحادية للواد بفعل الفيضان ، و كان منزلنا من جملة تلك البيوت التي داهمها السيل و دمرها عن آخرها .

رشيد كان و ما يزال ذلك الشخص المتعدد المواهب ، فإلى جانب إتقانه لكرة القدم كان سباحا ماهرا و عازفا بارعا على آلة العود ، و كان يتميز بالعدو السريع ، لا يمكنك أن تمسك به مهما حاولت كما كان يتحلى بأخلاق فاضلة تأتي في مقدمتها

الثقة التامة ، استأمنه على خزائن الدنيا و اطمئن حباه الله قناعة قلما تجدها في غيره .

و نظرا للصحبة التي جمعتنا ، كنا لا نفترق عن بعضنا نهارا 

و ليلا ، فقد يمضي أسبوع أو أكثر دون أن يشارك أسرته على المائدة أو ينام في بيته ، و إنما كان يكتفي بزيارتهم لدقائق معدودة ثم ينطلق معي إلى حيث نريد ، لأنني كنت أستضيفه بمنزلي و كان أهلي يعتبرونه ابنا لهم و أخا لي ، نأكل سويا 

و ننام سويا ، حتى بلغ الأمر بوالدته رحمة الله عليها أن كانت تقول لي مازحة لقد أصبح رشيد ابنكم و ليس ابننا .

نعم هكذا قضينا الطفولة و الشباب ، و ما زالت تلك الذكريات راسخة في أذهاننا ، نسترجع شريطها كلما سمحت الظروف باللقاء .  

 

                    ✏ رفيق الدرب  زايد وهنا  ✏