دفين أغمات

                         دفين أغمات


        هذه الصورة لضريح بأغمات ، و ما دامت

أغمات غير بعيدة عن المدينة التي أسكنها ، و لم يسبق لي أن زرتها ، قررت أن أزورها و أقف عن كثب على أحداث ما يزال صداها يرن في أذني ،

و ما تزال ذاكرتي تحتفظ بالكثير عن هذه القرية التي طالما حدثت تلامذتي عنها في دروس التاريخ و عن دورها كمحطة في الطريق التجارية

الغربية التي كانت تعتمدها القوافل التجارية نحو بلدان جنوب الصحراء ، و رغم طولها فقد كانوا يتحملون مشاق السفر عبرها و يفضلونها عن  الطريق الوسطى المارة عبر سجلماسة رغم قصرها طلبا للأمن ، حيث أن إمارة بني مدرار و بعض القبائل الخارجة عن حكم الأدارسة التي كانت تقطن قريبا من سجلماسة كانت تعترض قوافلهم ، و لم يتم القضاء على هذه الإمارات المتمردة إلا في عهد المرابطين ، فعاد للطريق الوسطى المارة عبر سجلماسة نشاطها التجاري بفعل قصرها 

و سهولة مسالكها .

دخلت أغمات فإذا هي بلدة صغيرة جدا ، محاطة بحقول أشجار الزيتون و بعض الأنواع الأخرى من الأشجار الغير المثمرة ، مما يضفي عليها جمالا في طبيعتها الخضراء الخلابة ، بها بضعة متاجر توفر للساكنة ما تحتاج إليه في معيشها اليومي ، السواد الأعظم من سكانها فلاحون و أغلب نشاطهم يتمثل في العناية بالمشاتل من أغراس متنوعة

و أزهار مختلفة الأنواع و الألوان و الأشكال تجذب إليها الناظر و تخلب لبه ، إذ يرى من النباتات ما لم يره من قبل .

غير أن ما أكسب أغمات شهرتها و جعلها قبلة للسياح المغاربة و الأجانب إضافة إلى تاريخها

الضارب في القدم هو وجود ضريح " المعتمد بن عباد " بها ، و هو المكان الذي كنت أرغب في زيارته لا للتبرك ، فأنا لا أزور أي ضريح إلا إذا كان

دفينه شخصية تركت بصمة في التاريخ و زيارتي له ليست قصد التبرك و إنما لأقف عن كثب على

منجزاته و أستزيد معرفة بأمور كثيرة قد أجهلها

فأجدها مكتوبة في مخطوطات أو أستقيها ممن

لهم ذراية واسعة بهذه الشخصية ، خصوصا و أن

معاينة المكان بهدوئه يوحي للزائر الباحث بأن

يستحضر محطات من حياة الدفين ، و هو الأمر

الذي شعرت به ، فقد تذكرت سلسلة من دروس التاريخ التي كنت ألقنها لتلامذتي حول الممالك

الطائفية بالأندلس خلال القرن الخامس الهجري

و لا داعي للخوض فيها ما دام القارئ يعلم عنها 

الكثير ، و لكن هذا القبر أمامي هو لأحد ملوك

الطوائف الذي انتهى به الحال أن يدفن بأغمات

و إلى جانبه قبر زوجته و ابنه ، فهو للتذكير فقط :

أبو القاسم المعتمد على الله محمد بن عبَّاد ولد سنة 431 هـ و توفي سنة 488 هـ هو ثالث وآخر ملوك بني عبَّاد على اشبيلية  بالأندلس، تولى الحكم بعد أبيه  أبي عمرو المعتضد سنة 461 هجرية ، تزوج من السيدة اعتماد الرميكية .

كان المعتمد بن عباد حين آل إليه حكم إشبيلية في الثلاثين من عمره، شابا ، فارساشجاعا و شاعرا موهوبا، وأميرا جوادا ، يحب الأدب ومجالسة أهله فقرب إليه في بلاطه أدباء و شعراء من صفوة ذلك العصر  من أمثال أبي بكر بن عمار ، وابن زيدون وابن اللبانة ، وابن حمديس الصقلي ، كما  كانت زوجته اعتماد الرميكية شاعرة كذلك ، تتمتع بجمال فاتن و براعة في الشعر والأدب ، وكانت إشبيلية حاضرة دولته آية في الروعة والبهاء ، تزدان بقصور بني عباد وقوادهم وكبار رجال دولتهم .

غير أن أطماع المعتمد بن عباد في سبيل التوسع على حساب ممالك المسلمين الأخرى جعله يتحالف مع ألفونسو السادس ملك قشتالة على حساب إخوانه المسلمين، ولم يجد في نفسه غضاضة وهو يقوم بدفع الجزية للملك القشتالي و هذا التحالف

أشعل نار الغضب في نفس قائد المرابطين يوسف

بن تاشفين و هو من اجتاز إلى الأندلس دفاعا عن الممالك الاسلامية ضد النصارى ، فأمر  بحمل المعتمد بن عباد وآل بيته إلى منفاهم بالمغرب ،  وخرج الناس لتوديعهم محتشدين وقد ملأ الدمع أعينهم ، وذابت قلوبهم حسرة وألما على ملكهم الذي أدبرت عنه الدنيا ، فخرج هو وأسرته على هذه الصورة المخزية بعد الجاه والسلطان ، وقد سجل الشاعر الأندلسي الكبير ابن اللبانة هذا المشهد الحزين بقصيدة مبكية جاء فيها:


حان الوداعُ فضجّت كل صارخة

              وصارخٍ من مُفداة ومن فادِي

سارت سفائنُهم والنوْحُ يتبعها

            كأنها إبل يحدو بها الحادي

كم سال في الماء من دمعٍ وكم حملت

          تلك القطائعُ من قطعاتِ أكبادِ


وبعد أن وصلت السفينة إلى المغرب أقام المعتمد وأسرته أياما في طنجة، ثم أُخذوا بعد ذلك إلى مكناسة، وقضوا هناك أشهرا قبل أن يرحلوا إلى منفاهم  بأغمات .

وفي أغمات عاش المعتمد عيشة الذل و المهانة ، كسير القلب ، يُعامَل معاملة سيئة، ويتجرع مرَّ الهوان ، و هو  ينظر إلى بناته الحسناوات المدللات يغزلن الصوف ليحصلن على القوت، ولكنه كان يتجلد ويتذرع بالصبر، ويلجأ إلى شعره، فينفس عن نفسه بقصائد مُشجية مؤثرة . 

حدث أن دخلت عليه بناته في سجنه يوم عيد ، فلما رآهن في ثياب رثة ، تبدو عليهن آثار الفقر والفاقة ، انسابت قريحته بشعر شجي حزين فأنشد :


فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا

         فساءك العيدُ في أغمات مأسورًا

ترى بناتك في الأطمارِ جائعة

          يغزلْن للناس لا يملكْنَ قِطميرا

برزْن نحوَك للتسليمِ خاشعةً

         أبصارُهنَّ حسيراتٍ مكاسيرا

يطأْنَ في الطين والأقدام حافية

          كأنها لم تطأْ مسكا وكافورا


واشتدت وطأة الأَسْرِ على اعتماد الرميكية زوجة المعتمد، ولم تقوَ طويلا على مغالبة المحنة ، فتُوفيت قبل زوجها ودُفنت بأغمات على مقربة من سجن زوجها ، أما زوجها المعتمد فقد عاش بعدها أربع سنوات حتى أنقذه الموت من هوان السجن وذل السجان ،  فلقي ربه في (11 من شوال 488 هـ = 1095م) ودُفن إلى جانب زوجته .

سبحان الله تذكرت كل هذا و أنا أنظر إلى قبره 

و قبر زوجته و ابنه ربيع ، و أجول بنظري في كل ما يحيط بهم ، و أرى تقلب الدهر بالإنسان ، فمن

ملك تنصاع له الدنيا إلى سجين ذليل ، شعرت شعورا غريبا و كأنه يحدثني هو نفسه ،  فبعد أن أتيت أغمات فرحا بزيارتها منشرح الصدر لرؤيتها ، ها أنا أغادرها منقبض النفس و لا أدري سببا لهذا الانقباض غير ما تفعله الدنيا بأهلها . 

فوجدتني أردد قول أبي البقاء الرندي :

لكل شيء إذا ما تم نقصان

         فلا يغر بطيب العيش إنسان 

كانت هذه القصيدة مما واسيت به نفسي و أنا 

في طريق العودة .


       ✏بقلم الباحث عن الألم :  زايد وهنا ✏



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق