🎥 أشرطة بالأبيض و الأسود 🎥
أصبحت مؤخرا كلما اختليت بنفسي ،
أسترجع شريط ذكريات الطفولة ، و أتمعن في ذلك الماضي البعيد بكل تجلياته ، و كثيرا ما أتساءل عن سبب الغوص في زمن مضى و ولت أحداثه
حلوها و مرها و أقول في نفسي ما الفائدة من تذكارها ، فأوعز ذلك للمرحلة العمرية المتقدمة التي أعيشها فربما تكون هي السبب ، فإن لم تكن هي فلعله عامل الاغتراب عن الأهل و الصحاب يجبر صاحبه على الوحدة ، و في الوحدة يهيم الخيال و تتيه الأفكار و تتوالى الأحداث الماضية ،
و لم لا يكون السبب هو هذه المدنية المتحضرة في نظر معاصريها ، و ما جرته على الناس من بؤس و شقاء بفعل انجرافهم مع طوفان الماديات
و تهافتهم على مغريات الحياة بأي وسيلة و لو فاقت قدراتهم .
هذا التهافت وراء سراب الدنيا ، أفقدهم الشعور بالقناعة ، ففقدوا معها كل أسباب السعادة حيث ضرب بالقيم الإنسانية النبيلة عبر الحائط و التي كانت فيما مضى بمثابة العمود الفقري الذي يضبط
تصرفات الناس و سلوكاتهم ، فغاب عن هؤلاء الحياء و استشرى الفساد و أهمل طلب العلم
و تميعت الفنون الجميلة و انحطت الأذواق
و سادت التفاهة و أصبح روادها نجوما لا يشق لهم غبار في الميوعة و المجون ، مما جعل الغيورين على القيم يعيشون غربة و يتأففون مما آل إليه الحال .
فاعترى الناس فراغ روحي و وجداني ، و لم يعد يهمهم إلا المصالح الشخصية ، و نسوا أنهم استبدلوا السعادة بالتعاسة و ضيقوا على أنفسهم
من حيث لا يشعرون .
و لعل هذه الدوافع كلها مجتمعة هي التي جعلتني
أعود في أحيان كثيرة بالذاكرة إلى ذلك الماضي
التليد ، و أقارنه بما نعيشه حاليا ، فتتضح لي
الهوة الشاسعة بين الأمس و اليوم ، فيهزني الشوق و الحنين و تتوالى أشرطة الذكريات السارة أمام عيني ، و حتى تلك المؤلمة منها آنذاك لم تكن
بنفس ألم و مرارة ما أراه اليوم .
قبل أن أطلق عنان القلم لكتابة هذه التأملات ،
كنت أستمع إلى إحدى القصائد من شعر الملحون
و هي قصيدة " سيدنا يوسف " التي استوحى الشاعر الناظم وقائعها من القرآن الكريم و صاغها بطريقة زجلية في قالب جميل و مؤثر ، تسهل على المستمع البسيط فهم القصة جيدا .
و هنا تذكرت كيف أنني و منذ طفولتي أحفظ بعضا من أبياتها ، و الفضل في ذلك يرجع إلى
رجل كان يجوب البلدات و القرى ، يضع متاعه على ظهر حماره و يحمل آلته الوترية ( الوتار )
و يتسول بأبواب المنازل و هو يعزف و ينشد
تارة قصيدة " سيدنا يوسف " و تارة أخرى قصيدة " سيدنا إبراهيم " أو قصة " العجوز و ابنها علاء " و كنا نحن الأطفال نتبعه و نتنقل معه في الحي من بيت إلى آخر ، لنستمع و نستمتع ، و كم كنا نتمنى أن تتأخر صاحبة البيت قليلا قبل أن تتصدق عليه مما تيسر لديها حتى يسترسل في الإنشاد . و بفعل التكرار حفظت بعض الأبيات
التي رسخت بذهني فصرت أرددها في منزلنا
و في الطريق إلى المدرسة ذهابا و إيابا ، و لعل تلك الأزجال و ما كنا نستمع إليه في المذياع من أغاني الزمن الجميل ، كل هذا كان بمثابة البذرة الأولى التي أنبتت في وجداني حب الغناء المتزن و الشعر الرصين ، فأصبحت مولعا و شغوفا أهيم بالشعر فصيحه و زجله ، مما دفعني في مرحلة الشباب و الكهولة للبحث في مجال شعر الملحون الذي وجدت فيه حقا أسرارا و مكنونات نفيسة لا
يتذوقها إلا من سبر أغوارها ، و عرفت كذلك أن انتشار قصائد الملحون في كثير من حواضر وطننا
كان بفضل ذاك المتسول و أمثاله من الحكاواتيين
و الحلايقية الذين عملوا على نشره و تحبيبه للناس و تسهيل حفظه و ترديده خصوصا و أن هذا النوع من الأمداح كان هو الغالب في ذلك الزمن الذي لم يكن للتفاهة فيه حظ يذكر .
✏ بقلم زايد وهنا ✏
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق