رجال على العهد

                   ⛏  رجال على العهد ⛏


         رن هاتفي المحمول ، فإذا المتصل السيد

" الهواري " ابن بلدتي المقيم حاليا بالرباط .

تبادلنا التحايا و بعد أن اطمأن كل منا على أحوال

الآخر ، ذكرني السيد " الهواري " بواقعة كانت قد

حدثت لوالدينا رحمة الله عليهما منذ زمن بعيد ،

كانت في وقتها واقعة مخيفة و صارت بعد ذلك 

ذكرى جميلة تخلد للصداقة المتينة بين الوالدين

المبنية على الثقة و الوفاء و الشهامة و التعاضد

الذي كان يجمع بينهما .

رجلان تحابى في الله ، يكافحان من أجل توفير 

لقمة العيش الحلال ، نسأل الله جل في علاه أن

يجمع بينهما في مستقر رحمته .

لا أحد من أهالي البلدة يعرف الشخص المقصود

إذا سميته باسمه الحقيقي " محمد بن امحمد "

و لو أضفت اسمه العائلي " بوزياني " خاصة

و أن العوائل التي تحمل هذا الاسم العائلي كثيرة

و تتشابه أسماء أفرادها ، مما يصعب معه التعرف

بسهولة على " محمد بن امحمد بوزياني " ، 

و لكن بمجرد أن تقول اللقب المشهور به و هو 

 " الموتشو " حتى ينجلي اللبس ، لأن الجميع 

يعرفه و لا حاجة لك لإضافة تعريف آخر .

هذا اللقب الذي التصق به منذ صغره ، أيام 

الاستعمار ، ذاك أنه خرج للعمل في سن مبكرة 

بإحدى الضيعات التابعة للمستعمر ، و كان مشغله

الإفرنجي يناديه بهذا اللقب " الموتشو " و التي

تعني الطفل في لغة الإفرنجة ، فأصبح هذا اللقب

مصاحبا له في أوساط أهل البلد ، و لم يثبت يوما

أن تبرم أو تسخط عند سماعه ، فهو في قرارة نفسه يعتبر هذا اللقب وساما يفتخر به لأنه يدل

على نضج و فطنة طفل ناضل من أجل العيش

الكريم رغم صغر سنه و لم يرض لنفسه أن يعيش

عالة على غيره بل بالعكس كان هو المساعد لأهله

و لولا شجاعته و صلابة عوده و حزمه في العمل

ما قبله النصراني و هو في تلك السن .

أما عن الواقعة فأحداثها كانت في بدايات السبعينات من القرن الماضي ، حيث اجتاح فيضان

واد " الكرابة " البلدة و تسبب في هدم المنازل

المحادية لضفتيه ، و باختصار تم إحصاء المتضررين و قامت الدولة ببناء بيوت لهم كتعويض في حي سمي ب " المنكوبين " نسبة

للنكبة التي حلت بأصحابه .

بنيت جدران المنازل بالطوب و التابوت ، و لكن بدون أسقف و لا أبواب و لا نوافذ و من غير تبليط

لأرضيتها ، و بعد مدة سلمت لأصحابها و هي على تلك الحال ، مما أثار استياء الناس الذين يرونها

غير صالحة للسكن ، و ليس لديهم و هم الفقراء

الطاقة المادية لإتمام إصلاحها ، فأجمعوا قولهم على أن يتطوع ثلاثة رجال منهم لزيارة السيد

العامل بالرشيدية و رفع تظلمهم له عساه يجد لهم

حلا لما يعانونه ، و استقر رأيهم على أن يساهم كل

متضرر بمبلغ زهيد ( خمسة دراهم ) كمصاريف التنقل لهؤلاء الثلاثة المتطوعين ، و ما دام السيد   " بوزياني محمد بن امحمد " ( الموتشو ) يملك متجرا بسيطا ، فقد جعلوه أمينا و دكانه مقرا لجمع تلك المبالغ البسيطة .

ما لم يكن في حسبانهم و هم البسطاء أن جمع

المبالغ المالية أمر محظور و ممنوع ، و هو ما جعل

السلطات المحلية آنذاك تضيق عليهم الخناق 

و تتهمهم بتهم لم تخطر على بال أحد منهم 

و خصوصا السيد الذي تجمع لديه الأموال ، 

تم استدعاء الرجل الذي حكى للسلطات كل شيء

بتفصيل و تمت المناداة على الآخرين ، و هنا كانت

المفاجأة ، فقد تبرأ المتضررون  الآخرون مما وقع و صرحوا أنهم لم يتفقوا على شيء مما ذكر إلا

رجل واحد هو والدي الذي صرح بكل شيء ، ولم

يكتف بذلك بل أعلن أمام السلطات أنه شريك

لبوزياني في كل ما يتهم به و أنه مستعد أن يتلقى 

معه نفس العقاب و لا يمكن أن يتخلى عنه .

علمت السلطات بعد ذلك أن هؤلاء البسطاء ما

فعلوا إلا بدافع البراءة طلبا لإنصافهم و ليست لهم نوايا أخرى ، فتم إغلاق الملف .

ختاما لعل الموقف الذي أبان عنه والدي في تلك

الواقعة و وقوفه بجانب صديقه هو ما جعل السيد بوزياني ( الموتشو ) يشيد بصداقته و شهامته ،

و بقدر ما عظم قدر والدي في نفسه بقدر ما سقط

قدر الآخرين في عينيه .

مات " محمد بن امحمد البوزياني " و مات 

" عسو وهنا " عليهما الرحمة و بقيت المواقف شاهدة و خالدة في أذهاننا ، نتذكرها من حين لآخر فنرفع أكف الضراعة إلى الله سبحانه و تعالى أن يتغمدهما و أموات المسلمين بالرحمة 

و المغفرة .


 ✏بإيعاز من الهواري بوزياني و بقلم زايد وهنا✏

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق