من ذكريات الطفولة
كان أسعد يوم من أيام طفولتي و أنا في التاسعة من عمري أواخر ستينات القرن الماضي ، هو ذلك اليوم الذي يزورنا فيه ضيف من أقاربنا أو صديق مقرب لوالداي رحمة الله عليهما ، و ما أكثرهم وقتها ، و كنت
شغوفا بمجالستهم ، أسترق السمع و هم يتجاذبون أطراف الحديث عن مواضيع ذات صلة بحياتهم اليومية ، و لكن أكثر الأيام سعادة بالنسبة إلي هو اليوم
الذي يستضيف فيه أبي زوجين من أقرب معارفنا ،
هما السيد ( حدى ) و زوجته ( فاطنة ) رحمهما الله ، هذان الزوجان اللذان لم يرزقا بالولد ، و رغم ذلك فهما يعيشان حياة مستقرة سعيدة يسودها تفاهم و مودة قل نظيرهما ،
و العجيب في أمرهما أنهما يؤنسان حياتهما بالاستماع إلى الأغاني المحببة لديهما ، و ما أكثرها و أمتعها في ذلك الزمن ، لذلك كانا يملكان جهاز الحاكي -- ( tourne disque ) -- ، و قد بلغ بهما الاهتمام بأسطوانات الأغاني و السكيتشات المضحكة أن وضعوها في صندوق مزخرف على قدر حجمها ، به منديل قطني نظيف ، و مما يزيد الجلسة متعة هو أن زوجته ( فاطنة ) هي التي تتولى تنظيف الأسطوانة بعناية كبيرة قبل وضعها تحت شوكة الحاكي .
و كانا يصطحبان معهما الجهاز كلما دعاهما أحد لوليمة ما ، و لكن أغلب الولائم كانت تقام في بيتنا ، و لعل
رؤيتي لعمي ( حدى ) و هو يحمل جهاز الحاكي ،
و خالتي ( فاطنة ) و هي تحمل علية الأسطوانات عند دخولهما إلى بيتنا هو ما كان يبعث في نفسي فرحة
و شوقا لا يوصفان ، فتجدني أنتظر بفارغ الصبر
الوقت الذي يبدأ فيه عمي ( حدى ) فتح الصندوقين ،
الصندوق الكبير و هو الحاكي نفسه و الصندوق الصغير الذي تصطف فيه الأسطوانات .
و نظرا لكثرة زيارتهما لبيتنا و الاستماع لأسطواناتهم الجميلة آنذاك ، أصبحت أعرف عناوين المغنين المكتوبة على ظهر أغلفتها ، و كنت حينها أحب الاستماع أكثر إلى أغاني حميد الزهير و عبد الكريم الفيلالي و أعشق كثيرا أغنية ( الباسبور الأخضر ) و ( يا بن سيدي و يا خويا ) و ( الصنارة ) لعبد الهادي بالخياط و ( عطشانة )
لبهيجة إدريس و ( غني لي شويا شويا ) لأم كلثوم
و الثنائي الكوميدي ( محمد بلقاس و عبد الجبار الوزير ) و الفنان ( عبد الرؤوف ) و غير هذه من أغاني الرواد مما لم تستحضره ذاكرتي الآن .
و لا أخفي سرا أنني الآن و قد تجاوزت الستين ، أعود
أحيانا و استمع لإحدى تلك الأغاني ، لا لشيء و إنما لأعيش لحظات فرحي الطفولية و أتذكر تلك الأيام الخوالي التي على بساطة عيشها كانت في الحقيقة سعيدة و هنيئة ، سادت فيها القيم الانسانية النبيلة من حياء و كرم و صدق و مودة و ذوق رفيع ، على عكس ما نراه اليوم ، فرغم هذا التقدم التكنولوجي ، و هذه المدنية المعاصرة ، فقد تم التفريط في القيم السامية ،
و سادت التفاهة ، ففسدت الأذواق ، و لم يعد للفنون التعبيرية أي رسالة ، باختصار فقدت الحياة كثيرا من ملذات العيش السعيد ، حتى أصبحت أحيانا لا تطاق .