ما لم يكن في الحسبان
منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض و هو يسعى لتطوير أساليب عيشه بما يضمن له الاستمرار في الحياة ، فسخر كل طاقاته البدنية و الفكرية لمواجهة قساوة الطبيعة و إخضاعها لما يريحه و يسعده ، و ذلك بأن يصير الصعب سهلا و المعسر ميسرا ، فالإنسان القديم عاش ظروفا قاسية و شظفا في العيش مستعملا في ذلك الوسائل البدائية المتاحة و التي بدأ يطورها شيئا فشيئا مع تعاقب الحقب و الأزمنة ، و باختصار فقد كان الإنسان ومايزال يبحث عن سبل السعادة في الحياة و يسعى جاهدا وراء عيش سهل و مريح ، و هذا ما دفعه إلى استعمال العقل و تسخير العلم لأجل تحقيق ذلك . و بفضل الاكتشافات و الاختراعات عبر مراحل تطور البشرية تمكن الإنسان من توفير الكثير مما حرم منه أسلافه القدامى ، و أصبح السعي وراء العيش أسهل مما كان عليه . تقدمت العلوم فلم يعد الإنسان يجد مشقة في طلب العلم ، و لا نصبا في السفر ، كما لم يعد يقتصر على أطعمة قليلة بل أصبح يتنعم بكل ما تنتجه الأرض من خضر و فواكه و أضحى يلبس مما تنتجه معامل الخياطة ، و ما يتقنه الصانع التقليدي من أزياء تبهر الأنظار و تخلب الأذهان .
استخلف الله الإنسان في الأرض بعدما سخر له كل مكونات الطبيعة و أمده بكل مقومات الحياة ، و أنزل عليه الشرائع السماوية لتنظم حياته و استقراره ، ليظفر بالأمن و الأمان و العدل و المساواة .
لكن ما نراه اليوم من تقدم تكنولوجي و ما يعرفه العصر من مستجدات فاقت كل التوقعات ، قلبت سعادة الإنسان تعاسة ، فرغم بحبوحة العيش ، أقول بحبوحة العيش مقارنة مع الماضي ، أمسى الإنسان لا يجد لهذا العيش طعما ، و كيف يستلذ بمتع الحياة و هو يرى الحروب في أنحاء كثيرة من العالم تستهدف بالخصوص محاربة الإسلام و النيل منه ، و ذلك بإذلال المسلمين
و تركيعهم و إبعادهم عن دينهم و تشكيكهم فيه بنشر الإلحاد ،
و محاولة هدم القيم النبيلة و تعويضها بما يبعد المسلمين عن دينهم ، علما منهم أن الإسلام هو الدين القيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ، و يعلمون كذلك علم اليقين أنه متى استمسك المسلمون بدينهم و طبقوه في حياتهم أسوة بسلفهم ، فسيتقوون و لن تستطيع أي قوة في العالم أن تكسر شوكتهم أو تخضعهم لهواها .
لذلك عمل الصهاينة و أتباعهم في الغرب على إفراغ الإسلام من غاياته السامية و أهدافه النبيلة بإبعاد الشباب المسلم عنه و بغرس العلمانية و الانحلال في نفوسهم باسم الحضارة و التقدم
و الانفتاح ، فأباح الغربيون و الصهاينة الماكرون زنى المحارم
و شجعوا المثلية و عمدوا إلى تغيير الجنس من ذكر إلى أنثى
و من أنثى إلى ذكر ، و جعلوا من المرأة بضاعة للإغراء ، و خربوا الأسرة ، و تطاولوا على شرع الله بالخوض في النصوص القطعية كتغيير أصول الميراث ، و وصلت بهم الهمجية و هم الذين يعتبرون أنفسهم متحضرين إلى الحيوان الأعجم ، فتزاوجوا معه ، و غير هذا كثير مما أفقد الحياة لذتها و خرج عن سكة الفطرة و المنطق ، و بالتالي بعثر السعادة التي يهفو إليها الناس ، فبات العالم في تدافع بين قوى الخير و قوى الشر ، و رجحت كفة الشر و طغى الفساد ، لأن أغلب شباب الأمة الاسلامية الغير المحصن ، انبهر و انخدع بحضارة الغرب الماجنة ، و انساق وراء هذه المظاهر المقيتة ، ظنا منه أنه الأسلوب الحضاري الذي قد يسعده ، ما دامت الدول المتقدمة تنتهجه .
إذن كيف يطيب العيش و ينعم بالسعادة من يرى أن الأمور تسير نحو الهاوية ، و قد انفلت زمام الأمر من يد الأباء في تربية أبنائهم على النحو الصحيح الذي يقره ديننا الحنيف ، و أهمل العلم
و همش العلماء ، فتفشت المخدرات و كثر الإجرام ، و تفككت الأسر إذ لم تعد للمرأة أي حرمة ، و عميت قلوب الناس و أبصارهم عن طريق الحق ، و عم الفساد البر و البحر ، و استشرى الطمع
و الغش و الخذلان و النصب و الاحتيال ، و احتقر الضعيف ذو الفضائل و بجل الغني ذو الفضائح ، غاب الحياء و تدنى مستوى الوعي ، و أضحت التفاهة في المقام الأعلى ، و التافهون هم المبجلون .
الحقيقة التي لا ينكرها جاحد أن بساطة العيش في الماضي أضفى عليها الوازع الديني و الترية الحسنة قناعة و عفة ، فغمرت الناس بالسعادة و الهناء ، و كان تنافسهم ينصب على التشبع بمكارم الأخلاق و عزة النفس من كبرياء و أنفة و غيرة على النفس و العرض و البلد و الإسلام و المسلمين عامة ، على عكس ما نراه اليوم ، تطورت الوسائل على اختلافها ، و لكنها أفقدت الإنسان تلك السعادة التي كانت تغمره فيما مضى .لهذا أقول -- و أنا جد مقتنع -- لأولئك الذين يعيبون العصر الجاهلي و يستنقصون من أهله لما كان يتفشى بينهم وقتئذ من رذائل ، أنهم مخطئون حقا ، فجاهلية عصرنا فاقت جاهلية عصر ما قبل الرسالة بكثير ، بحيث لم تترك رذيلة قد تخطر على بال زنديق إلا و ها نحن نراها أو نسمع عنها ، و لم تترك قيمة من القيم الفاضلة إلا و في طريقها إلى الإقبار ، في حين أن أسلافنا في الجاهلية مهما أجرموا لم يخرجوا عن الفطرة الانسانية ، فهم و إن كانوا يزنون و يشربون الخمر و يئدون البنات ، فقد كانوا يتميزون بصفات و خصال حميدة ، كالشجاعة
و الحماسة و الغيرة و الكرم و الوفاء بالعهد و النعرة و الأنفة
و الكبرياء و نصرة المظلوم و غيرها كثير مما يعلمه كل دارس لذلك العصر ، فإذا وضعنا هذه المزايا في كفة ، و عيوبهم في كفة أخرى ، فلا شك أن الأولى سترجح على الثانية ، و لو قمنا بنفس المقارنة لجاهلية عصرنا هذا ، لا أحد يجادل في رجوح كفة الفواحش بل لن تجد ما تضعه في كفة المزايا إلا القليل النادر الذي لا يكاد يسمع له حثيث ، ففساد هذا العصر جمع من الفواحش ما تفرق في غيره من العصور السابقة ، فأضحى عصر الفاحشة بلا منازع و لا منافس ، اللهم إذا استثنينا قلة من المسلمين ذوي الإيمان الراسخ ، الذين يتمسكون بالقيم الانسانية النبيلة و لا يحيدون عن شرع الله مهما كانت المغريات ، فهؤلاء صراحة مهمشون يعيشون غربة قاتلة في هذا الزمن ، و لا حيلة لهم في تغيير المناكر إلا بالقلوب و ذلك أضعف الإيمان .
ختاما لنا اليقين أنه مهما فعل المغرضون ، تبقى يد الله فوق أيديهم ، أليس هو سبحانه و تعالى القائل :
《 يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ 》
فهذه الآية كفيلة بأن تبعث الطمأنينة في النفوس المسلمة السليمة ، فاللهم مالك الملك ، رد بنا و بشبابنا إلى الطريق المستقيم هذا حالنا لا يخفى عليك ، أنت القوي الجبار ، بك نستغيث من هذه الفتن و الفواحش ، فلا تواخذنا بما فعل السفهاء منا ، و ارفع مقتك و غضبك عنا ، و انصر إخواننا المسلمين في فلسطين و في سائر البلاد الإسلامية ، نسألك يا ذا الجلال و الإكرام أن تجعل كيد كل من يريد سوءا بالإسلام و المسلمين في نحره ، و اخرجنا من بين أيديهم سالمين غانمين ، و اجعلنا يا مولانا ممن غشيهم سترك في الدنيا و الآخرة ، آمين و الحمد لله رب العالمين و صلى الله و سلم على نبيه الكريم و آله و الصحب أجمعين ، و من سار على نهجهم إلى يوم الدين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق