الاستغلال الفضيع
كل أمم العالم تقدر و تبجل أي مواطن أسدى خدمة جليلة لوطنه في أي مجال من المجالات التي تساهم في تقدم البلد و رقيه ، و لذلك جعلوا للمتقاعد منزلة
رفيعة في نفوسهم ، و وفروا له كل الإمكانيات التي
تريح حياته و ترغد عيشه ، لأنهم يعلمون أن هذا المتقاعد قد أفنى زهرة شبابه في خدمة بلده ، و لو أحصيت هذه الخدمات لما يربو عن أربعين سنة لعجزت الذاكرة عن إحصائها ، لذلك يعمدون إلى كل السبل التي
ترفه عنه لتعويضه عن متع الحياة التي فاتته بسبب العمل ، و التي كان غيره يستمتع بها .
كان هذا الموظف لظروف العمل لا يسافر إلا نادرا ، و لا يحضر الحفلات و المهرجانات و المناسبات العائلية إلا مرات قليلة في حياته المهنية ، الناس في بيوتهم و في المقاهي يستمتعون بمشاهدة المباريات القارية
و العالمية و هو منكب على عمله لا يصل إلى مسامعه إلا هتاف المتفرجين ، حتى أوقات فراغه كان يشغلها بالتحضير و الإعداد للعمل الموالي كما هو الشأن في مهنة التعليم و بعض المهن الأخرى التي تزعج راحتهم
الاتصالات الهاتفية في شأن العمل ، و لا يجوز له أن يترك العمل لزيارة قريب مريض ، و لا يمكنه حضور جنازته إلا إذا كان من أفراد أسرته ، من كثرة مشاغله لا يجد وقتا للقراءة ، و لا وقتا لمساعدة أبنائه في القيام بواجباتهم المدرسية ، و غير هذا مما حرم منه الموظف
خلال حياته المهنية كلها ، و تجد المسكين يتوق إلى ذلك اليوم الذي يتم فيه إحالته على المعاش ليتفرغ لحياته الشخصية و يعوض بعضا مما فاته من متع الحياة رغم كبر سنه و وهن بدنه و ضعف بصره .
الأمم الراقية تقدر كل هذه الظروف و تعمل جاهدة على
تعويض المتقاعد بحيث توفر له كل الإمكانات المادية
و المعنوية التي تخفف عنه وطأة العجز البدني و تروح عن نفسه بكل ما يشتهيه من المتع الدنيوية .
في حين أن بلدنا المسلم الذي من المفروض أن يكون
قدوة الأمم الأخرى في العناية بالمتقاعد ، مدد سن
التقاعد إلى ما فوق الستين مما زاد من عجز و ألم الموظف ، و انتقص من راتبه المعاشي مبلغا كبيرا ،
و لم يجعل له أي امتياز في حياته كمتقاعد ، كل هذا الظلم و الحيف و الاحتقار مرده إلى إفلاس صندوق التقاعد بسبب النهب و التسيب من قبل القيمين عليه ،
و عوض أن يحاسب الجناة على أفعالهم ، تسلطت الحكومة إلى هذا المتقاعد العاجز المريض الذي كان يقتطع من أجره لهذا الصندوق طيلة مدة عمله ، لتجد الحلول التي ترضيها على حسابه فمددت من سنوات عمله و نقصت من راتبه المعاشي ، و زادته مآسي على مآسيه ، فلا هو استمتع كغيره كموظف ، و لا هو استراح كمتقاعد .
إذن لماذا هذا النكران و الجحود في حق المتقاعد ، أهو جزاء من أراد بوطنه خيرا ، و أفنى عنفوانه في خدمته
و سخر كل طاقته في منفعته ، من يلتفت إليه الآن
و قد تكالبت عليه المواجع ، لا ملاذ له و لا معين إلا الله
سبحانه و تعالى ، أما حكومته فقد كافأته بالنكران
و الاحتقار لأنه أصبح عالة عليها يثقل كاهلها بذلك المبلغ الزهيد الذي لا يكاد يكفي لسد ضروريات الحياة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق