🌞 و لله في خلقه شؤون 🌞
عرفناه منذ الصغر ، كان رحمة الله عليه رجلا كفيفا من غير عكاز و لا دليل مرشد ، يقضي مآربه لنفسه ككل المبصرين ، ما ثبت عنه يوما أن داس على بضاعة أحد أو خر ساقطا من جراء تعثر ،
كان يمشي كالمبصر معتمدا على حاسة السمع عند عبور الشوارع و الأزقة ، و العجيب في الأمر أنه كان يقطن في أحد الدواوير التي تبعد عن المدينة بنحو ثلاثة أميال ( الطاوس ) ، فيقطع تلك المسافة مشيا على الأقدام عبر طرق ضيقة ملتوية وسط الحقول و المزارع دون أن يضل في تلك المسالك أو يصاب بأدى ، يعرف الناس من خلال أصواتهم
و يناديهم بأسمائهم كلما صادفه أحد و ألقى إليه التحية .
هذا ما نعرفه عنه و هو أمر يثير استغرابنا
و لكن عندما يحدثك عنه أهالي الدوار الذي يسكنه تزيد غرابة حتى أنك لا تكاد تصدق ما يقال ،
إذ هناك أشياء يقوم بها هذا الكفيف لا يستطيع المبصر الإتيان بها ، و لولا إجماع أهل الدوار على مواهبه و مرافقتهم له في مغامراته لحسبنا ذلك ضربا من الخيال و الغلو في حقه .
سأحدثك عن بعض الأمور الغريبة فلا تشح بوجهك عنها و تعتبرها من الخرافات فأنا مثلك لا أستسيغ إلا ما أراه منطقيا ، و لكن هي الحقيقة بعينها مدعمة بالأدلة التي وقف عليها أكثر من شخص و شهدوا لها بالصحة .
لا تستغرب إذا قلت لك أن مهنة صاحبنا هذا هي حفر الأبار ، و أهل المنطقة جميعا يعرفون ذلك ، فيستأجرونه لحفر آبارهم ، و الأغرب من ذلك هو إتقانه لهذه التقنية بحيث يتعمق في الحفر مستخدما مرفقيه فترى البئر كأنه أنبوب مستقيم
لا اعوجاج فيه حتى صار مضرب المثل عند الأهالي.
لا تتعجب إذا قلت لك أن هذا الرجل الأعمى يعرف خبايا حمادة كير ( guir ) على شساعتها
و ترامي أطرافها و قد جرت العادة عند أهالي حوض كير أنهم يزرعونها إذا استبشروا بموسم ممطر ، فكم من مجموعة مزارعين كان هو دليلهم
و مرشدهم في ذلك الخلاء لاختيار البقعة الأكثر خصوبة .
لا تستغرب إذا قلت لك أنه يذهب زوالا بعيدا عن قريته و ينصب الفخاخ للأرانب و الثعالب ، ثم يعود الى القرية و في الصباح يذهب ثانية ليتفقد الفخاخ ، و كم مرة رأيناه يبيع في السوق أرنبا
أو ثعلبا .
لا تندهش إذا قلت لك أنه يتسلق أشجار النخيل الباسقة المستعصية على المبصرين فيلقحها أو يجني ثمارها .
و من طرائف ما سمعت عنه ، و تحققت من صدقه ما حكاه لي أحد رجال قريته أنه مرة دعاهم أحد البدو الرحل الى مأدبة غذاء ، و كان صاحب الوليمة هذا يسكن خيمة في مكان بعيد ، و ما دام الكفيف من جملة الخمسة عناصر المدعوين ، فقد كان هو مرشدهم إلى مكان الخيمة ، و أضاف الراوي أنه خلال الطريق كان من حين لآخر يمسك التراب بيده و كأنه يتفحصه و يستأنف السير ،
و في لحظة توقف و أمر مرافقيه بالتوقف ، ثم سألهم إن كانوا قريبين من صخرة كبيرة أو شجيرة شوكية ، فأجابوه أن هناك شجيرة على بعد مترين من طريقهم ، فأمرهم بالانتباه و أخذ الحيطة فربما هناك أفعى تستظل بظلها فقد سمع فحيحا في ذلك الاتجاه ، و فعلا وجدوا أفعى ملتوية على نفسها بجدع الشجيرة و قتلوها ، فتعجبوا جميعا كيف سمع هو فحيحها و لم يسمعوه هم .
نعم هكذا يحكي عنه أهل قريته الكثير من المواقف و الأمور التي يستعصى على المبصرين الإتيان بمثلها .
أما أنا فقد كنت أصادفه أحيانا و أنا في طريقي إلى العمل ، لأنها نفس الطريق التي يمر منها إذا كان متوجها نحو المدينة أو عائدا منها ، فأنظر إليه
و هو يمشي لعلني ألاحظ تعثرا أو خروجا عن المسار و لكن في الحقيقة لا شيء من ذلك ، و قد حدث مرة أن ارتطمت رجله بقطعة قماش مهترئة ، فانحنى عليها و أخذها بين يديه و شرع يتفحصها وأنا أراقبه من بعيد ، فإذا هي قميص ( قمجة ) فأخذ يزيل أزرارها واحدا تلوى الآخر و وضع الأزرار في جيبه ، و ألقى بالخرقة بعيدا عن الطريق ثم واصل سيره .
هذه بعض الشطحات من سيرة رجل و إن ابتلاه الله في بصره فقد عوضه بصيرة القلب و أمده بقدرات و مهارات ، قلما تجدها عند المبصرين .
لعلك أخي القارئ عرفت من أقصد بكلامي ، و إن كنت تريد أن تعرف اسمه فقد كان الجميع يناديه بالإسم الذي اشتهر به ، فإن استطعت أن تفك لغز هذه الأعداد ستعرف أنت كذلك اسمه :
( سبع أعشار زيد اربعين و ستة تقول واو )
تغمده الله برحمته الواسعة و أثابه خيرا في الدار الآخرة و جعل له نورا يمشي به إلى الجنة .
ختاما إذا ساورك الشك فيما قرأته ، فتذكر قول الله سبحانه و تعالى :
"...أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور ..."
ِ سورة الحج الآية 46.
🕯 رجل في ذاكرة زايد وهنا 🕯
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق