◾ الفقيه القدوة ◾
الفقيه ، هكذا كان الناس في دوار ( آيت عشة ) يذكرونه في غيابه إذا استوجب الحديث ذكره ، أما في حضوره فهم ينادونه سيدي العماري .
هو إمام المسجد و معلم الأطفال في الكتاب .
رجل طويل القامة تعتلي وجهه مسحة من السمرة ،
لا يلبس من الثياب إلا أبيضه و أنظفه ، له هيبة
و وقار عند الجميع ، لا يجرأ أحد على المزاح
أو الهزل في حضرته احتراما له و لمكانته .
كان أول عهدي به و أنا طفل صغير ، حين كان أبي يصحبني معه إلى ( بني وزيم ) في مناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف حيث يخرج أهالي القرية عن بكرة أبيهم صباح المولد لترديد الأذكار
و الأمداح ، و جرت العادة في كل مناسبة أن نتناول فطور الصباح ببيت سيدي العماري إذ كان والدي من أعز أصدقائه رحمة الله عليهما .
فبالرغم من صغري سني كنت أتتبع تصرفات
و سلوكات سيدي العماري لأثبت و أتأكد من كلام أبي الذي طالما كان يحدثنا عن مكارم أخلاقه
و رجاحة عقله و بليغ حكمته ، حتى صرت في ذلك السن أراه أعظم الناس في عيني و أجلهم قدرا في نفسي .
كبرت و كبر معي ذلك التقدير و التعظيم لهذا الفقيه ، فقد كان حقا رجلا حكيما اجتمع فيه ما تفرق في غيره ، و لو أردت تعداد مناقبه لأسهبت في المقال و لن يصدقني إلا من عرفوه من أبناء (بني وزيم) و الدواوير المجاورة ، و لكن سأجملها في أربع خصال هي رأس الفضائل التي يتمنى كل مسلم أن يتحلى بها ، و هي صعبة المنال إلا من يسرها الله له ، و جاهد النفس عليها .
الصبر واحدة من هذه الخصال و أعلاها درجة ،
و هي أكثر الفضائل ذكرا في القرآن الكريم ، و لعل سيدي العماري أدرك منزلتها و ثوابها فتحلى بها ،
و قد تعرض في حياته لمواقف كثيرة أبان فيها عن صبره و إيثاره ، و لو كلفه ذلك تعطيل أشغاله هو
أو خسارة مادية قد تلحقه ، و لا يمكن بحال من الأحوال أن يردها في وجه سائلها .
الحياء شعبة من الإيمان و رأس الدين كله ،
و هذه الخصلة متجدرة في صاحبنا ، حتى أنه كان رحمة الله عليه يتجنب أن يرى أحدهم يرتكب ذنبا لئلا يزول الاحترام بينهما ، فقد كان له بستان به أشجار مثمرة تغري اللصوص باقتحامه و أكل غلته ،
فكان هو كلما اقترب من بستانه أحدث صوتا كأن يسعل أو يذكر الله حتى يتنبه اللص و يهرب دون أن يرى أحدهما الآخر لئلا يسقط الاحترام و الحياء بينهما .
أما الكرم فحدث و لا حرج ، كان حاتم
ايت عشة ، لا يبخل بشيء من حيلته و قوته و ما ملكت يده للداني و القاصي ، و العجيب في أمر هذا الرجل أنه رغم أجره الزهيد جدا ، لا يشكو ضيقا في الرزق ، و لا ضنكا في العيش ، إذا دخلت بيته و أطعمت من طعامه ظننته من أثرياء القرية .
الجميع يتحدث عن حكمته في التعامل مع المواقف ، و كيف يعالجها بطرق سلسة و بأسلوب حضاري لا يترك أثرا سلبيا في نفوس الناس و لا يجعلهم سخرية أمام بعضهم ، ما ثبت عنه يوما أن نادى أحدا باسمه مجردا سواء كان صغيرا أو كبيرا ، ذكرا أو أنثى ، بل يدعو هم بسيدي فلان و يدعوهن بلالة فلانة ، و من طرائف حكمه على سبيل المثال لا الحصر ، أنه كان ذات مرة جالسا مع ثلة من رجال القرية بباب القصر ( فم القصر ) يتجاذبون أطراف الحديث ، فإذا به يسمع صوت زوجته ينبعث من داخل الزقاق حيث يجتمع النساء للترويح عن أنفسهن ، و مادام هو الفقيه الواعظ فلا يليق أن يبلغ صوت زوجته إلى مسامع الرجال ، فما كان منه إلا أن نادى على أحد الأطفال و طلب منه أن يذهب إلى زوجته ( باحة قسود ) و يقول لها إن الفقيه يطلب منك أن تعطيه الكلابة ( الأداة التي بها تقتلع الأضراس ) ، فلما أبلغها الطفل بالأمر ، و كانت هي كذلك على جانب من الفطنة و الذكاء اكتسبتها من حسن معاشرته ، أجابته بأنه لا يريد الكلابة و إنما يقصد بذلك أن أخفض صوتي ، و كأنه يقول لي :
" الله يعطيك الضروس "
لعل ما ذكرته لك أخي القارئ هو غيض من فيض ، إذ لا يسع المقال لذكر كل الأشياء ، و كما سبق و أشرت أنه كانت تجمعه بوالدي رحمة الله عليهما صداقة متينة ، أسأل الله جلت قدرته أن يجمعهما في مستقر رحمته ، صداقة مبنية على الحب في الله ، و الحمد لله أننا ورثناها عنهما ، فهي نفس الصداقة التي تجمعني بابنه عبد الرحمن الطالبي هذا الأخير الذي أخذ عن أبيه خصلة الصبر و صفاء السريرة ، فجعلت منه شخصا محبوبا طيب المعاشرة ، و هي نفسها الصداقة التي ستستمر بين أبنائنا و قد ظهرت بوادرها جالية بين ابنتينا
( دنيا و خولة ) .
ختاما أخي القارئ عليك بهذه الخصال إن أطقت و إن لم تطق فأخذ القليل خير من ترك الجميع ، و احرص على أن تحب في الله ، فما كان لله دام و اتصل و ما كان لغير الله انقطع و انفصل .
🕋 فقيه في ذاكرة زايد وهنا 🕋
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق