🎻 ليلة الحناء 🎻
ليس من المقبول بالقصر الكبير ببوذنيب أن يمر حفل زفاف أو ختان من غير أن تقام طقوس الحناء للعريس أو المختون ، و العجيب في الأمر أنه جرت العادة عندهم منذ زمن بعيد أن هذه الطقوس لا يتولاها إلا نفس الرجل في كل المناسبات ، حتى أضحت من اختصاصه هو دون غيره .
رجل بدين قصير القامة طلق المحيا ، سريع البديهة ، لا يرتدي من اللباس إلا ما كان لونه أبيضا ،
إذا لقيته في الطريق حياك قبل أن تحييه
و إذا مدحته رأيت الدموع في عينيه و إذا مددته بشيء شكرك قبل أن تشكره ولسانه لا يكاد يفتر عن الثناء و الدعاء .
لعلك الآن عرفت هذا الرجل ، إنه هاشمي مولاي علي رحمة الله عليه ، فقد كان قيد حياته هو من يخضب يدي و رجلي العريس إذ كان يتقن ذلك ببراعة مشهود له بها ، و مما يزيد من إصرار الناس على تكليفه بذلك هو الإعتقاد السائد أنه الشريف الذي إذا وضع يده في أمر ما يسره الله و جعل فيه الخير و البركة سيما و أن مشروع الزواج أمر ذو أهمية في حياة الناس و لا أحد يريده أن يبور .
أثناء إقامة مراسم الحناء يتقدم رحمه الله
و يجلس أمام العريس و حوله ثلة من أهالي القرية الذين يحفظون ما تيسر من القرآن الكريم ، فيستفتحون المجلس بآيات بينات من الذكر الحكيم ثم يرددون بعض الأذكار و الأمداح من قبيل البردة و أسماء الله الحسنى ، كل هذا
و صاحبنا منهمك في تخضيب يدي و رجلي العريس و لسانه يلهج بالدعاء للعروسين بالمودة
و السكينة و الرفاء و البنين ، حتى إذا أنهى طقوسه المعتادة ، يرتمي العريس على رأسه تقبيلا فيرد له القبل مشفوعة بالدعاء ، كان هذا دأبه في كل حفل زفاف أو ختان طيلة عقود من الزمن إلى أن التحق بالرفيق الأعلى ، نسأل الله جل في علاه أن يتغمده برحمته و يجعل له ذلك في ميزان حسناته .
بعد انتهاء مراسم الحناء ، يفسح المجال للطرب و الغناء و هنا يأتي دور رجل آخر لا يقل أهمية عن سابقه ، مطرب عصامي خجول من أبناء القرية ، رجل بشوش مضياف قنوع ، محب للفن
و أهله ،عازف على آلة العود ، تأثر منذ شبابه بالموسيقى الكلاسيكية المصرية و المغربية
و انتقى من فن الملحون قصائد المصليات
و المداحيات التي كان يستهل بها الحفل جريا على عادة أهل منطقتنا ، و هذا التنوع في الأنماط الغنائية جعل الناس يقبلون على الاستماع
و الاستمتاع .
لا بد و أنك عرفته الآن ، إنه مولاي عبد الرحمن العمري المعروف في الأوساط البوذنيبية
ب( بابا حو ) ، و يا ما تحملنا مشاق الطريق للسهر معه و الاستمتاع بروائعه ، و لا أخفيكم سرا أنني كنت في شبابي أشعر بسعادة غامرة و هو يؤدي ( عليك صلاة الله و سلام ) لاسمهان أو (أنا من أنا) لعلية التونسية أو موشحات صباح فخري )
و أنتشي بذلك حتى أصل إلى قمة تقترن فيها العظمة بالسعادة .
كانت هذه العادات و التقاليد تسري في قصر بوذنيب كما في غيره من القرى و لكن طالها الاهمال تدريجيا حتى كادت تندثر مع نهاية القرن الماضي ، فما أن أطل علينا هذا القرن بمستجداته التكنولوجية و الرقمية حتى انساق شبابنا وراء هذه المدنية المتدفقة بخيرها و شرها ، فانحلت القيم و ساد العبث و لم يعد الإقبال على الفنون الراقية ، فأهمل الشعر و النثر و الغناء الهادف ،
و أصبح شبابنا يعيش فراغا روحيا و وجدانيا
و صار عبدا للتكنولوجيا ، مدمنا على الآلة ، مستغلا إياها في الجوانب السلبية ، فأكسبه ذلك خبرة مزيفة في عالم افتراضي و لم يكسبه ثقافة
و تذوقا .
رحم الله مولاي علي هاشمي و والدينا و أموات المسلمين جميعا و أطال في عمر الأحياء ممن عاصروا ذلك الزمن الزاهي على بساطته و امتد بهم العمر الى زمن تردى فيه كل جميل ، فطفا الغثاء
و العفن على السطح و غار الفن الهادف في القعر ، فأصبحنا نشعر بالغربة بين أبنائنا و حفدتنا ، و كأن لسان الحال يقول :
" لقد خلقتم لزمن غير هذا ، و ما يجدي التأسف على ماض أسعدكم و التأفف من حاضر أشقاكم "
📚 الغريب في زمانه : زايد وهنا 📚
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق