🌐 المهاجر 🌐
لا تصدر حكما ، و لا تبدي رأيا حتى أحدث لك من قصتي ذكرا ، و بعدها لك كامل الصلاحية في قول ما تشاء ، إن شئت قدرت و أعذرت ،
و إن شئت انتقدت و عاتبت ، و في كلتا الحالتين لن ألومك لأنك لم تعش نفس الظروف و التجارب التي مرت بي و مازالت تمر .
ولدت في قرية صغيرة بمنطقة نائية ، في أسرة
تتكون من أب مياوم و أم ربة بيت و ثلاث بنات
و ولد واحد أصغر هن جميعا هو أنا .
بين أحضان هذه الأسرة الفقيرة ترعرعت و كنت
الذكر الوحيد مما جعلني مدللا عند الجميع ، و ما كدت أبلغ سن التمدرس حتى أسرع أبي في إلحاقي بالمدرسة الابتدائية ، فكنت أول
فرد من الأسرة يلتحق بالمدرسة رغم أن أخواتي
أكبر مني سنا إلا أن ظروف أبي المادية حالت
دون إلحاقهن بالمدرسة ، خصوصا و أن التعليم
الاعدادي و الثانوي لا يوجد بالقرية مما يحتم على
من يريد متابعة الدراسة مغادرة القرية إلى أقرب
مدينة و التي تبعد عنا بحوالي مائتي ميل ،
و هو الأمر الذي لم يستسغه والدي مع البنات ،
إذ كان يخشى أن يلحقهن سوءا أو قد يتعرضن
لتحرش يمس كرامة الأسرة أو غير ذلك من الشرور الغير المستبعدة في مثل تلك المدن الكبرى ، لذلك كان أمله الوحيد أن أكون أنا من يحمل مشعل العلم في أسرتنا و هذا ما زاد في
تدليلي و كأنني الأمير و الفارس المنقذ التي
تعلق عليه الأسرة كل آمالها ، لهذا كنت أحضى باهتمام خاص في المأكل و الملبس ، فلا يرد لي طلب و لا أمنع من أي شيء رغبت فيه .
انتهت سنوات الابتدائي و انتقلت إلى المدينة
لمتابعة دراستي الاعدادية ، و لحسن حظي كنت
من بين الممنوحين في الداخلية التابعة للمؤسسة.
باختصار شديد من دون التطرق إلى التفاصيل
المملة و المؤلمة ، اجتزت المرحلة الاعدادية
و الثانوية و حصلت على شهادة الباكلوريا في الآداب بميزة ، فكان ذلك الحدث بمثابة عرس أقامه أهل بيتي فرحا بهذا الإنجاز الكبير و الذي هو في نظرهم منتصف الطريق نحو وظيفة راقية طالما حلموا بها لتنتشلهم من براثين الفقر خصوصا وأن والدي قد بدت عليه علامات الشيخوخة و العجز ، و رغم ذلك فهو يكابد
و يتألم و لا يكاد يبين بل بالعكس يشجعني على المواصلة و يدعمني بما ملكت يداه و لو كان ذلك كله على حساب صحته .
هنا بدأت أعي أمورا كثيرة كنت عنها في غفلة ،
و لم أعد ذلك المراهق المدلل بل أصبح شغلي الشاغل أن أنقذ الموقف ، تقدمت للجندية لأنها
المهنة الوحيدة التي لا تطلب سوى شهادة
الباكلوريا و لكن لسوء حظي تم رفضي لأن
قامتي أقصر مما يشترطونه بخمس سنتمترات ،
فقلت عساه خيرا ، التحقت بالجامعة و عيني
متفتحة على أي مباراة قد تلوح في الأفق لأي
مهنة كانت إذ لا يمكن لمن هو في مثل وضعي
أن يتأنى أو يختار ، و لكن دون جدوى حتى
مرت سنوات أربع و حصلت على الإجازة بميزة مشرفة ، و عاد الأمل يراودني من جديد ،
و اعتقدت أنني بهذه الشهادة و هذه الميزة قد أصبحت قاب قوسين من الحصول على وظيفة ،
و لكن للأسف شاءت الأقدار أن يعاكسني الحظ
في كل خطوة أخطوها .
لم أجد حلا لمعضلتي بعد أن سدت في وجهي
كل الأبواب التي طرقتها ، فاضطررت للعودة
إلى القرية بعدما علمت أن والدي طريح الفراش و أنه لم يعد يقوى على الحركة ، حينها قررت أن
أقوم بأي عمل مهما كان شاقا لأعول به أسرتي ،
عملت أجيرا في الفلاحة و في البناء و في التجارة
فاكتسبت خبرة كبيرة في هذه المجالات ،
و استطعت أن أوفر لأسرتي كل ما تحتاجه من
ضروريات ، كما أنني كنت أهتم بصحة والدي
و أعرضه على الأطباء بالمدينة المجاورة ، و لكن
المرض لم يمهله طويلا فمات المسكين و في
نفسه حرقة على الأمل الذي لم يتحقق .
بعد موته بأيام قليلة تزوجت أختي البكر ، و لم
نقم لها عرسا ، لأن أمي مازالت في فترة العدة ،
و كانت تلك عادة أهل قريتنا ، فقد اكتفينا بدعوة
الأهالي للوليمة ، و رتل إمام المسجد ما تيسر من الذكر الحكيم و مضى كل إلى غايته .
خضت تجربة في المجال السياحي ، لكوني أجيد اللغتين الفرنسية و الانجليزية ، فكنت من حين لآخر أعمل دليلا سياحيا للأجانب الذين يزورون القرية قصد الاستمتاع بمناظرها الطبيعية الخلابة ، و أعجبتني هذه المهنة لأسباب عدة ،
أولها أنها غير شاقة وثانيها أكسب منها الكثير
و ثالثها و هي الأهم أنني أستحضر ذلك المخزون
اللغوي الذي كاد يضيع مني مع مرور الوقت ،
و رابعها أنني أصبحت أربط علاقات صداقة مع
الأجانب ، و لعل هذا السبب الأخير هو الأهم من
سابقيه لأن عليه أبني أملا كبيرا في الحصول على
عمل خارج الوطن بمساعدة أحد هؤلاء السياح
الأجانب .
و أخيرا تحقق الحلم ، إذ زار القرية مجموعة من السياح الفرنسيين ، و كانت ضمنهم سائحة سبق لها أن زارت القرية ، و لا شك أنها هي من اقترحت عليهم هذه الزيارة لأنها أعجبت بجمال المناظر و استراحت لمعاملة أهلها الطيبين ، و ما أن رأتني حتى ارتمت علي تعانقني عناقا حارا لم أشعر بمثله في حياتي ، و قدمتني لرفقائها على أني صديقا لها ، فاستبشرت خيرا و شرعت في عملي أجول بهم و أحدثهم عن طبيعة القرية ، و أجيب عن تساؤلاتهم التي تنهال علي من كل فرد منهم ، كل هذا و صديقتي ملتصقة بي لا تفارقني إلا لضرورة .
لا أخفي أنها الفرصة التي كنت أضمر في صدري
و أنتظر إتاحتها ، و ها هي بوادرها قد لاحت
من خلال علاقتي الوطيدة بهذه السائحة ، تشجعت و فاتحتها في موضوع الهجرة نحو فرنسا
للعمل ، تلألأت عيناها فرحا و ارتسمت على شفتيها
ابتسامة تنبئ عن نوع من الرضى و التفهم .
انفردت بي في مكان ظليل بأحد الحقول ،
و سألتني عن مدى حبي لها و صدق علاقتي بها ،
فأجبتها بكل براءة إذ لم أكتشف بعد ما يدور في
خلدها ، حينها تفاجأت باقتراحها الذي لم أكن
أتوقعه حيث طلبت مني أن أتزوجها و هي تتكفل
بجميع المصاريف داخل الوطن و خارجه .
لا أنكر أنني صدمت من طلبها هذا ، و انتابني
إحساس غريب ، كدت أفقد معه صوابي ، فقد
امتزجت الفرحة بالأسى ، فهي تقريبا في سن
والدتي ، فكيف بابن التاسعة و العشرين أن يقترن
بامرأة أرملة تجاوزت الخمسين ، تريثت في إبداء
رأيي بينما أخذت هي تتودد إلي و تعدني وعودا
مغرية ، طلبت منها مهلة للتفكير دون أن أبدي
امتعاضا مما سمعت .
لم أشأ أن أخبر أحدا بأمري ، لأنني على يقين أن والدتي سترفض رفضا قاطعا زواجي من تلك السائحة المسنة ، و هكذا بت ليلتي أفكر و أرجح
رأيا على رأي ، و أخيرا صممت على أن أدخل هذه
المغامرة ، و حقيقة الأمر أنني رجحت الجانب المادي و حياة الرفه على سعادتي الزوجية ، و ما
يدريك لعل الله يجعل من أمري يسرا .
استيقظت باكرا ، استحممت و خرجت إلى حيث
يقيم السياح ، وجدتها في انتظاري و قد تزينت
و لبست أفخر ملابسها ، عانقتني و قبلتني ،
أبلغتها قراري بالموافقة على الزواج منها شريطة ألا تخبر أحدا حتى تتم مراسم عقد القران.
وافقت على الشرط و ضمتني إليها و أخذت تقبلني في كل مكان من وجهي ووووو.
مرت ثلاثة أشهر و كأنها ثلاثة عقود ، كنت خلالها
أهيئ أمي لتتقبل الأمر الواقع ، و كنت أقول لها
أن هذه السائحة لا تكبرني إلا بقليل ، و طالما امتدحت طباعها و محاسنها أمام أمي عساها ترضى عما أنا مقبل عليه .
رن هاتفي و إذا الاتصال منها تخبرني أنها في الطريق إلينا ، حضرت أمي كل ما باستطاعتها
تحضيره ، وصلت السائحة " شارلوت "
محملة بالهدايا الكثيرة لأمي و أختاي و كأنها هي الأخرى تستجدي ودهن و محبتهن لها .
انتهت مراسم الزفاف على نفقتها ، و انطلقت نحو عالم آخر يختلف تماما عما ألفته و لكن سرعان
ما تكيفت مع الأجواء هناك بفضل مساعدتها ،
لأنها كانت تحبني حبا كبيرا بحيث لا تعصي لي
أمرا ، بل توسطت لي في إيجاد عمل في إحدى الشركات براتب محترم ، أعدت اجتياز مباراة السياقة حسب القانون الفرنسي ، فاشترت لي
سيارة ، و أصبحت أعيش حياة مريحة ،
و لم أنس أمي و أختاي ، فقد كنت أرسل لهن
ما يكفيهن و زيادة ، و أتصل بهن عبر الهاتف
لأطمئن على أحوالهن ، و كانت أسعد اللحظات
حين أسمع أمي و هي تدعو معي .
أخذت وعدا على نفسي أن نقضي إجازتنا السنوية
في زيارة أسرتي بالقرية ، و هو الأمر الذي دأبنا
عليه حتى بعد أن تزوجت أختاي و توفيت أمي .
كم كنت أود أن أرزق بمولود ولكن بلوغ زوجتي
" شارلوت " سن اليأس حال دون تحقيق هذه الرغبة التي بدأت تستحود على تفكيري و أحالت
حياتي بؤسا و تعاسة ، فأقراني من أبناء القرية
لهم أولاد و بنات و أنا محروم من هذه النعمة ،
مما جعلني أفكر في الارتباط مرة أخرى بزوجة
ولود ، و لكن ما السبيل إلى إقناع " شارلوت "
خصوصا و أننا أحببنا بعضنا حبا شديدا ، و هي لم تقترف ذنبا ، أو ساءت تصرفا ، فعدم الإنجاب ليس عيبا منها ، و هو أمر كنت أعلمه و تقبلته بداية الأمر ، فكيف اليوم و بعد كل تضحياتها أستبدلها بأخرى ، لا أظنها توافق بل إن أخبرتها سأشق صدعا لا يرأب في علاقتنا و قد ينتهي بما لا يحمد عقباه . لهذا فكرت مليا في العواقب
و طردت تلك الهواجس من ذهني و قررت ألا
أعكر صفو حبنا ، و أن أواجه تحريض أصدقائي
من أهالي القرية بالتجاهل و التغافل ، فليس
من المروءة أن أعض اليد التي أحبتني
و انتشلتني و أسرتي من الفقر .
استمر الحال على ما هو عليه ، حب و احترام
متبادل قلما تجده في بنات جيلنا .
أنا الآن تجاوزت من العمر الأربعين و " شارلوت"
تجاوزت الستين و لكننا نعيش حياة الشباب
بكل معانيها الحقيقية دعامتها الصدق و الصراحة ،
و لم يعد يهمني من كلام الناس شيئا ، إذ اتخذت
قرارا أن أزور أخواتي كالمعتاد و أن أتجنب مجالسة الأهالي لأنهم يتدخلون فيما لا يعنيهم ،
فيهم الحسود الحقود و فيهم النصوح الغيور ،
و في جميع الأحوال لا أرغب في سماع ما يعكر
صفو العطلة .....
💼 بقلم زايد وهنا 💼