◾ دار العجزة ◾
كثيرا ما نسمع عن أمور في مجتمعنا و لكننا لا نتذوق حلاوتها أو نتجرع مرارتها بنفس القدر لمن عاينها و وقف على حقيقتها و لمس حيثياتها عن قرب ، فإن سمحت الظروف لأحدنا أن يعيش موقفا مماثلا ، عندها سينتابه إحساس غريب يختلف عن إحساسه السابق الذي استقاه عن طريق السمع ، و هو الموقف الذي عشته و عاينته و ما زال أثره البالغ في مخيلتي ، أتذكره فيصيبني الأرق و تكتئب نفسي ، و لولا نعمة النسيان و السهو لما حلا العيش و استمرت الحياة .
سأحكي تفاصيل الموقف الذي شاءت الأقدار أن أعاينه ،
و مهما أوتيت من براعة الوصف لن أستطيع أن أصف الأحاسيس التي يشعر بها الإنسان في مثل هذه المواقف ، باختصار ليس الذي رأى كالذي سمع .
اتصل بي كاتب جمعية هواة فن الملحون بمراكش
كعادته فهو أحد الأصدقاء المقربين ، و بحكم حبي
و شغفي بهذا التراث كان يدعوني لحضور أنشطة الجمعية التي كانت تقام بالمدينة بمناسبة أو بغير مناسبة ، و كان الجوق يتحفنا بروائع القصائد ، و بين الحين و الآخر يفتح باب النقاش أمام المهتمين لسبر أغوار أسرار شعر الملحون ، فكنا حقيقة نستمتع بهذه اللقاءات أيما استمتاع ،غير أن اتصاله في المرة الأخيرة كان مختلفا عما ألفته ، إذ أخبرني أن الجمعية قررت إقامة حفل موسيقي في فن الملحون لفائدة نزلاء دار العجزة بالمدينة ، شكرته على الدعوة و نوهت
بهذه البادرة الطيبة .
ذهبت في الموعد المحدد و أملي أن أستمتع كالعادة ، و لكن ما أن دخلت المؤسسة التي يقيم بها النزلاء حتى تملكني إحساس يمتزج فيه حب الاستطلاع بالشفقة على هؤلاء النزلاء ، فالمكان رحب فسيح به حدائق جميلة أزهارها ، ظليلة أشجارها ، فاخرة مبانيها ، مجهزة بكل المرافق الضرورية ، و لكن بمجرد أن رأيت عددا كبيرا من العجزة رجالا و نساء ، منهم الكفيف و المعاق و العاجز ووو... شعرت بضيق في نفسي و كأن الرجال أبائي و النساء أمهاتي ،
و كنت أود لو كان بالإمكان أن أعرف قصة كل واحد منهم او منهن ، و لكن عدلت عن هذا حتى لا أوقظ المواجع خصوصا
و هم يستمتعون بهذه الوصلات الملحونية ، فلا الوقت مناسب و لا الأمر ممكن .
لا أستطيع أن أصف فرحتهم بهذه البادرة الطيبة
و هم يصفقون و يهتفون و يرقصون ، فكنت أراقب هذه الأجواء و الغصة لا تفارقني ، و لم أتمالك حتى اندرفت الدموع ساخنة .
انزويت في مكان حيث لا يراني أحد ، مسحت الدموع و أنا أقول في نفسي ، كيف طاوعت أنفس بعض الأبناء إيداع آبائهم أو أمهاتهم في دار العجزة ، إنها قمة الجحود و النكران و العقوق ، ألا تتحرك فيهم عاطفة الأبوة أو الأمومة ، إنها حقا أفضع صور القسوة ، مهما تكون طباع الوالدين لا يليق تحت أي ذريعة كانت أن يعاملوا هذه المعاملة ، و لا أظن أن من يفعل ذلك في قلبه مثقال ذرة من الرحمة و العطف ، فهو كالحيوان بل أضل .
كان من المفروض أن تفتح دار العجزة لأولئك الذين لم يخلفوا أبناء و ليس لهم من يعينهم و يعتني بهم من قريب
أو بعيد .
بكل صدق و صراحة تأثرت كثيرا ، و لم أستمتع بالسهرة ، بل غادرت قبل انتهاء الحفل ، و من يومها و أنا اشعر بالأسى كلما راودتني تلك الذكرى .
💼 من واقع زايد وهنا 💼
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق