الغسال

                          👍 الغسال 👍

        

       من المشاهد اليومية التي تترك في النفس انطباعا مقيتا ما سمعته و رأيته من تصرف أحدهم في إحدى الولائم التي كنت مدعوا إليها بحكم الجوار و التي أقامها الجيران بمناسبة وفاة قريب لهم .

و بكل صراحة فقد تطبعت بطبع -- ليتني لم أتطبع

به -- و هو أنني ألاحظ أحيانا أدق الأمور في سلوك و تصرفات بعض الناس و التي لا ينتبه إليها الآخرون و لا يعيرونها أدنى اهتمام ، أما أنا  فتعودت على ملاحظتها و قد أستحسنها إن كانت إنسانية نبيلة فيكبر صاحبها في عيني و قد أمقتها إن كانت من النقائص فيصغر مقترفها في عيني ، كل هذه الارتسامات تدور في خلدي ، فأحتفظ بها لنفسي و لا أبدي لأحد منها شيئا ، و لست أدري أهو طبع محمود أم مذموم .

على أي فقد جرت العادة في المآتم أن يجتمع الجيران و بعض أهالي البلدة لتقديم ولاء العزاء 

و مواساة أهل الفقيد ، و بينما كنا في بيت الجيران نستمع لما تيسر من القرآن الكريم ، دخل أحد سكان حينا متأخرا و انتصب واقفا ينظر في وجوه الحاضرين و كأني به يختار مكانا  للجلوس ، نادى عليه أحد الحاضرين و أشار عليه بالجلوس في مكان شاغر بجانبه ، فلم يرد عليه و لم يعره اهتماما بل جاء يتلمس مكانا بين الجالسين قريبا مني .

تعجبت لهذا التصرف الذي ينم عن كبر و سوء أدب ، و دفعني فضولي لأعرف السبب و لكن بطريقة لا يشعر معها بشيء مما يحز في نفسي اتجاهه ، فقلت له :

 " إن فلانا كان يدعوك للجلوس بجانبه ، ألم تسمعه ؟ "

أجابني بعد أن اقترب مني :

 " سمعته و لكنني أكره الجلوس بجانبه ، لأتجنب

مشاركته الأكل على نفس المائدة "

لم أقتنع بهذا التعليل ، إذ لا أشم فيه رائحة

المنطق السليم ، فقلت :

و لماذا تتهرب عن مشاركته الأكل على نفس المائدة ؟

انحنى قليلا ليقترب مني أكثر و قال :

 " ألا تعلم أنه هو غسال الموتى ببلدتنا " ؟

قلت : " أعلم "

قال : " لذلك تشمئز نفسي من الأكل معه ، لأنه

بغسله للموتى يصيبه من آذاهم و أوساخهم الكثير

و قد ينقلها إلينا "

حينها علمت مقدار خبث نفسه و كبرها ، و لم

أستطع أن أتجاوز الأمر و لو أن مخاطبة مثل هذا السفيه أمر حذر الحكماء منه ، إلا أنني انتفضت قائلا :

" كيف طاوعتك نفسك أن تقول هذا في حق رجل

من خيار رجال البلدة و أطيبهم نفسا ، و أنبلهم

خلقا ، تطوع جزاه الله خيرا ليقوم بهذا العمل العظيم بدون مقابل ، و إنما يريد بذلك الأجر 

و الثواب ، زيادة على ذلك فقد اشترى عدة هذا العمل من ماله الخاص - بذلة و قفازات مطاطية - و قد اعتاد أن يستحم هو نفسه مرتين ، قبل و بعد غسل الميت ، ثم أليس هو من غسل أباك رحمه الله ، تخيل لو أمسك نفسه عن هذا العمل الجليل ، أتجدون في بلدتكم من يعوضه ؟ .

سكت صاحبنا و كأنه استوعب ما قلت له ،

لا أظنه اقتنع بكلامي ، و لكنه فضل السكوت إذ  لم يجد ردا مقنعا لموقفه ، خصوصا و أنه يعرف أنني لست ممن يناصرون السفاهة ، و لست ممن

يسهل إقناعهم بهذه التفاهات .

أنهيت حديثي معه ، ولا أخفي أنني أنزلته في نفسي منزلة اللئام ، أكثر من ذي قبل .

فنحن بحكم تواجدنا في بلدة صغيرة و الناس تعرف بعضها بعضا ،  فغسال الموتى هذا جندي متقاعد أدى خدمة جليلة في الدفاع عن حوزة الوطن ، و سهر هو و زوجته على تربية أبنائهما تربية حسنة ، و هم الآن يمتهنون وظائف مختلفة ،

فهو و الحمد لله لا ينقصه شيء من متاع الدنيا ، 

و لكنه يسعى  للفوز بمتاع الآخرة ، لذلك لا يتوانى

عن المساعدة  ، و لا يبخل بشيء مما يملك في سبيل الأعمال الخيرية . 

أما صاحبنا هذا الذي يتقزز من هذا الرجل الطيب ،

لو نظر يوما  إلى نفسه في المرآة و تمعن قليلا

في حاله ، لأدرك فداحة جهله و غروره بنفسه ،

فهو عاطل يعيش عالة على أسرته ، لا يقدم أدنى

خدمة لنفسه و لا لبلدته ، إلا خدمة واحدة يتقنها

جيدا هي الجهل و التكبر  ، فكان هو الأولى بالتقزز من غيره ، و هو الحي الميت الذي في حاجة 

إلى غسل دماغه قبل جسده ، عسى أن تزول عنه

تلك الشوائب المقيتة العالقة به ، و لكن مع الأسف

ليس بالبلدة من يغسل دماغ البلهاء مثله .


             💼   من واقع   زايد  وهنا  💼





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق