✏ الأستاذة ✏
هذه الأستاذة الأنيقة التي تراها اليوم ترتاد إحدى الثانويات بالجنوب الشرقي المغربي لتدرس تلامذتها مادة اللغة العربية ، هي تلك الطالبة التي عرفتها في أواخر السبعينات حيث جمعتنا زمالة الدراسة بالثانوي لمدة ثلاث سنين متتالية .
لقد أنزلتها منزلة الأخت ، أحترمها و أقدرها
و أعطف عليها ، و كانت هي الأخرى تبادلني نفس الاحترام و التقدير ، فكنت من المقربين إليها لما
عرفته عني من جد و اجتهاد ، مما زاد العلاقة
الأخوية اطمئنانا في نفسها حتى غدت تبوح لي بكل أسرارها ، فكنت أشفق لحالها و أواسيها
و أشجعها على مواصلة التحصيل .
لعل القارئ سيستغرب من دوافع حديثي عن هذه المرأة و سرد أحداث مضت عليها أربعون سنة ،
و لكن لا تستعجل ، فقد قيل في مأثور العرب
متى عرف السبب بطل العجب .
هذه المرأة قليل مثيلاتها ، فهي نموذج للتحدي
و الصبر و العزم ، فقد عاشت المسكينة و هي طالبة ظروفا قاهرة ، لا يستطيع غيرها تحمل بعضها ناهيك عن كلها .
كانت تعيش في أسرة فقيرة بأحد المداشر التي تبعد بأزيد من ست كيلومترات عن المدينة حيث توجد الثانوية ، و كانت تقطع هذه المسافة مشيا على الأقدام من أجل الدراسة و تحصيل العلم ،
و لم تكن حينها تملك كغيرها من الزميلات ملابس
فاخرة ، بل كانت كل ملابسها هي جلباب أسود
و حذاء مطاطي ، لم يسبق لنا أن رأيناها بغيرها ،
و رغم ظروفها القاسية و التي قد لا يتحملها حتى
بعض الذكور من الطلبة ، لا تنتابها الغيرة من زميلاتها اللواتي يتبرجن و يرتدين أفخر الثياب ،
فهي لا تشعر بأدنى نقص بل بالعكس تماما كانت عفيفة قانعة راضية بقدرها و الغريب في الأمر أنها
كانت أكثرهن مرحا و بشاشة و قبولا ، لخفة ظلها ، و عذوبة حديثها ، ما ثبت يوما أن ساءت التصرف مع أحدنا ، و لا تبرم من سلوكها قريب أو بعيد ، لذلك كان الطلبة ذكورا و إناثا يحبون مجالستها
و الإستئناس بأحاديثها .
باختصار حصلت أختنا هذه على شهادة الباكلوريا ، و شاءت الأقدار ألا تسعفها في الحصول على وظيفة توازي شهادتها آنذاك ، فلم تستسلم بل جددت العزم و أصرت على متابعة الدراسة الجامعية متنقلة بين مدينتي مكناس و فاس ،
بنفس الجدية و نفس الإصرار ، يحدوها الأمل في تحقيق رغبتها مهما كلفها الأمر ، حتى حصلت
على الإجازة ، و بعدها تجندت للخمة المدنية قبل أن يتم ترسيمها بصفة نهائية كأستاذة للغة العربية.
و لا أخفي أنني سررت لخبر توظيفها بقدر سروري
بتوظيف ابنتي البكر .
فمثل كفاحها و صبرها لم تره عيني ، لذلك كنت أحكي لزوجتي وبناتي عن شخصية هذه المرأة التي تحدت الصعاب و قهرت العقبات بكل عزم
و إصرار ، ما اغترت يوما بالمظاهر الزائفة التي كانت قريناتها تتنافس على الظهور بها ، بل عقدت عزمها على التحصيل العلمي ، و استطاعت أن تحقق لنفسها ما عجز عنه الكثيرون ، فأنقذت نفسها و أسرتها من البؤس الذي لازمها طيلة سنوات الدراسة ، و هي الآن أستاذة ذات مركز اجتماعي محترم تتقاضى راتبا شهريا يكفيها لتلبية حاجياتها و تعوض به ما فاتها من متع الحياة ، و رغم أن أحوالها المادية تغيرت إلى أحسن فطباعها الإنسانية لم تتغير ، فهي ما تزال
و إلى يومنا هذا تلك المرأة المتواضعة البشوش العطوف التي يرق قلبها لحال الضعفاء .
كنت ألتقي بها من حين لآخر عند زيارتي للمدينة التي تقيم بها ، و شاءت الصدف أن التقيت بها مرة
و أنا بصحبتي زوجتي ، فقدمتها لها ، و تفاجأت زوجتي إذ تأكد لها بالملموس ما كنت أذكره عنها من حسن الخلق ، فأعجبت هي الأخرى من بشاشتها و كرمها ، و ذاك ما ترك في نفسها انطباعا مريحا ، تذكرها به كلما أثير الحديث عن صداقتنا .
كما كنت من حين لآخر أحدث بناتي عنها عساهن يتخذن من سيرتها نموذجا يحتدى في نبل الأخلاق و طلب العلم بكل عزم و إصرار و عدم الاهتمام بالمظاهر من لباس و غيرها ، و قد تعمدت أن أجعل من سيرتها في هذا المقال درسا و عبرة لكل شبابنا ذكورا و إناثا ، ليعلم الجميع أن قيمة المرء في أخلاقه و علمه إذ هما السبيلان الوحيدان اللذان يبوئان صاحبهما المكانة
الاجتماعية المحترمة ، و ما سوى ذلك فهي أمور تافهة زائلة سرعان ما تنقضي أيامها و ترجع بالندم على صاحبها ، و لكن أنى يجدي الأسى و الندم إذا فات الأوان .
💼 أخوك الذي لم تلده أمك : زايد وهنا 💼
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق