🍀والدي قدوتي🍀

 🍀  والدي قدوتي  🍀


        لعل أول شخص بعد أمي وقر في نفسي حبه ، و الإعجاب به هو والدي: "عسو وهنا" رحمة الله عليه.. كان أعظم الناس في عيني، وأجلهم قدرا في نفسي، و كان أعظم ما فتحت عليه عيني هو أسلوبه في الحياة المبني على الجد في كل أمر، كان رحمه الله متشبعا بالقيم الإسلامية السمحة، 

و لا يقبل من التصرفات إلا ما يوافق شرع الله، ومن الكسب إلا ما يراه حلالا طيبا.

لقد نهل من تجارب الحياة منذ نعومة أظافره، 

واستفاد من دروسها و عبرها الكثير، و أيقن يقينا تاما أن أحوال الدنيا متقلبة، وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل، وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذن بالرحيل، وأنها دار ممر لا دار مقر ، فاتخذها مزرعة لآخرته، بقيام الليل الدائم، وتلاوة خمسة أحزاب في اليوم عن ظهر قلب، والإكثار من التسبيح والذكر والدعاء.. كان رحمه الله يدعو لما يزيد عن السبعين من الأموات من أقربائه وأحبابه بأسمائهم بانتظام، وكان حريصا كل الحرص على الكسب الحلال في إعالة أسرته، ويوصي بذلك باستمرار.

       أسلس لي السرد قياده ونسيت ان أقول أنه رحمة الله عليه ولد سنة 1926 بقرية ( آيت عشة ) ببني وزيم ببوذنيب ، و فيها تلقى مبادئ القراءة 

و الكتابة و حفظ ما تيسر من القرآن الكريم على يد شيخه الفقيه الطالب العماري عليهما جميعا رحمة الله تعالى.

غادر بني وزيم في سن التاسعة إلى قرية( موغل) قريبا من (بني دجيت) حيث كان والده يعمل في  مناجمها ، و هناك أكمل لهو الطفولة مع أبناء الفرنسيين القائمين على تلك الأشغال ، 

و نظرا لذكائه و سرعة بديهته تعلم اللغة الفرنسية في البداية نطقا لا كتابة من الفرنسيين و أبنائهم ، و لم يكد يبلغ الرابعة عشر من عمره حتى انتدبه المدير العام( monsieu BALETE ) ليعمل معه

كمؤشر على بطائق العمل الخاصة بالمستخدمين، لما لمس فيه من ذكاء وفطنة وحسن سيرة ، 

و طلاقة لسان، فدفعه ذلك لتعلم الكتابة بالحروف الفرنسية، و تم له ما اراد، إذ وجد ضالته في أسماء العمال المدونة في بطائقهم ،  و منها تعلم الحروف و بدأ يجمع و يقارن حتى أتقن الكتابة دون أن يستعين بأحد ، و الأغرب من هذا أنه أصبح يكتب التقارير الخاصة بالعمال و الكميات المستخرجة من المعادن و أنواعها ، وهكذا قضى عشر سنوات في المناجم، يدافع عن حقوق العاملين من إخوانه المغاربة المسلمين ، ويراعي ظروفهم ، ويشفق لحالهم ، وكانت تلك من أزهى فترات حياته كما كان يقول دائما، لولا أن والده أجبرهم على الرجوع إلى البلدة والاهتمام بالفلاحة ، و لكن والدي لم يقتنع بفكرة أبيه إذ يرى أن الاشتغال في الأرض خصوصا في ذلك الزمن حيث الوسائل تقليدية غير كاف ، مما دفعه إلى مغادرة القرية و لكن هذه المرة نحو الجزائر.

قضى بالجزائر أربع سنوات بين الضيعات الفلاحية، و أعمال البناء، ويحكي لنا أنه قضى مدة طويلة يعمل بآلة الدرس (ماشينة الدراس)، حيث العمل جد مضن وشاق، لدرجة أن بعض العمال لا يستطيعون إكمال اليوم الواحد.

ثم رجع إلى المغرب ليستقر و يشتغل بالتجارة، حتى أواخر السبعينيات. ومتى دعت الحاجة شمر عن ساعد الجد، وتحمل العمل الشاق في أشغال البناء، ليحافظ على نخوته وعزة نفسه، كفافا وعفافا وغنى عن الناس.

كان يقول لنا رحمه الله إن أثقل يوم علي هو اليوم الأول الذي أذهب إلى (الشانطي) لأطلب العمل، لأني أخشى أن يرفض المسؤول طلبي بسبب قصر قامتي بالمقارنة مع غيري من العمال، وبمجرد ان يوافق على طلبي، وأشرع في العمل، أصير من أعز الناس لديه، لما أبليه من بلاء حسن في الشغل قل نظيره.

لمدة تزيد عن أربعة عشر سنة تطوع لخدمة مسجد حينا بدون مقابل إلا ابتغاء الأجر والثواب من الله تعالى، فكان يقوم الليل بالمنزل ساعة ونصف او يزيد، ويذهب إلى المسجد قبل وقت أذان الفجر بحوالي ساعة او أكثر ، يسخن الماء للوضوء، وينظف ما بحاجة إلى تنظيف، ثم يجلس للصلاة والذكر والدعاء، إلى أن يحين وقت الأذان، فيؤذن.

سار على هذا النظام طوال تلك السنين، لا يمل ولا يكل ولا يفتر.

كان أعدى عدوه رحمه الله: التفاهة والسفاهة والروغان والذل و(قلة المعقول).

      تلكم إذن  بعض اللمحات من حياته رحمه الله ، كد وجد بكل جدية وصدق وإيمان وتوكل على الله ، ولم يشعرنا قط بالعوز والخصاص، تقبل الله منه وجعل سعيه وراء لقمة الحلال في ميزان حسناته ،  و لكن الأهم من كل هذا أنه لقننا دروسا في الفضائل و علمنا مما كان يؤمن به و يطبقه في حياته من (معقول) وشهامة وعزة وكرم  وحب للمساكين و الاعتماد على النفس و التسابق نحو الفضيلة و نبذ الرذيلة، والمحافظة على المواعيد، 

و عدم نكث العهود وغيرها من القيم التي استقاها رحمه الله من ديننا الحنيف بمجالسة الفقهاء 

و الاستماع إلى العلماء، و تلاوة القرآن الكريم 

و اعتياد المساجد، و التي كان يغرسها فينا و يصر في إتيانها إصرارا .

      لا بأس و قد تناولنا سيرته او فصولا منها أن أشير إلى بعض مواهبه التي تأثرت بها أيما تأثير، 

فإلى جانب حفظه لما تيسر من القرآن الكريم ، فقد كان يحفظ الكثير من الأقوال المأثورة و الأمثال 

و الحكم السائرة و يردد من حين لآخر العديد من القصائد سواء باللسان العربي أو الأمازيغي .

 عموما كان يهوى من الفنون أرقاها والتي توافق الشرع في نظره ، و لا أنكر أنني أخذت عنه الكثير من هذا التراث و استعنت به في أبحاثي، 

و استفدت من حكمه، و لكن هناك أمور لم أستطع أن أجاريه فيها لأن شخصيته أقوى من شخصيتي، وصبره يفل الحديد .

و أحمد الله و لا أحصي ثناء عليه ، و أسأله جلت قدرته أن يتغمده و أمي وأجدادي و أموات المسلمين برحمته الواسعة و أن يجمعنا بهم في مستقر رحمته، إنه على ما يشاء قدير و بالإجابة جدير ، نعم المولى و نعم النصير .


                  🌷   ابنك  :  زايد وهنا 🌷

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق