🌴الشيخ العماري شيخ ذوي منيع 🌴
عرفت منطقة كير guir بالجنوب الشرقي المغربي في أواسط القرن الماضي ، بروز ثلاثة أشياخ في نظم الشعر الشعبي ، و ذاع صيتهم في هذه الربوع المباركة حتى نسجت عنهم بعض الأساطير بعضها حقيقي و أغلبها أوهام من خيال محبيهم و هم :
◾ الشيخ العماري شيخ قبيلة ذوي منيع شاعر متصوف زجال بالفطرة في أغراض شتى .
◾و الشيخ الطالب لحبيب شيخ قبيلة بني وزيم شاعر صوفي خصوصا في مجال الجفريات
◾و الشيخ محمد القنادسي من زاوية القنادسة شاعر متصوف أغلب شعره في السير الذاتية .
هؤلاء الثلاثة البارزين آنذاك في النظم كانوا على صلة ببعضهم ، بحيث يجوبون حواضر و قرى الجنوب الشرقي من تافيلالت إلى القنادسةو بشار ، يتزاورون و يستأنسون بمجالس الشعر ، و يسمعون جلساءهم ما جادت به قرائحهم .
و من طريف ما حكى لنا سلفنا أنه جرت العادة عند أغلب الأشياخ أنهم في أسفارهم و تنقلاتهم يصطحبون معهم شخصا أو شخصين من مريديهم أو أتباعهم المقربين الذين يعرفون الكثير عن عادات شيخهم و طباعه ، يستأنس بهم في خلوته فيساعدونه و يؤمنون طريقه . و كان من عادة الأشياخ أن يتزاوروا فيما بينهم و لو بعدت المسافة ، للاطلاع على أحوال بعضهم و للمجالسة الشعرية ، و قد يمتد الأمر إلى أكثرمن ذلك خصوصا إذا توطدت علاقة الصداقة بينهم كاستئمان بعضهم البعض على وصية أو وديعة ثمينة .
و الغريب في أمرهم أن لهم آدابا خاصة بهم يراعونها في الزيارة ، بحيث إذا قدم أحدهم لزيارة أحد أصدقائه من الأشياخ لا يدخل القرية التي يسكنها المزار إلا بعد إخباره بمقدمه و الاستئذان منه ، إذ من باب الوقار و الحياء ألا يفاجئ الضيف مضيفه تفاديا للإحراج حتى يكون المضيف على علم بمقدم الشيخ الضيف ، لذلك يفضل الزائر أن يبقى في مكان بعيد عن أعين الناس على مشارف القرية و يرسل أحد مرافقيه إلى بيت صديقه ليخبره بمقدمه .
و من الآداب المعمول بها و التي تدل على مكانة الضيف و حظوته أن يخرج الشيخ المضيف بعد أن يعلم بمقدم ضيفه و يصحب معه شخصين أو ثلاثة من أعيان القبيلة لاستقباله على مقربة من القرية ،
و يأتي الجميع في وفد مهاب الجانب تحفه السكينة و الوقار إلى البيت حيث يكرم نزلهم ،
و يستريحون من وعثاء السفر لتنطلق بعدها جلسات الشعر .
و مما يذكره السلف عن سرعة بديهة الأشياخ
و فطنتهم و ذكائهم في فك الألغاز ، أن الشيخ العماري شيخ قبيلة ذوي منيع جاء في زيارة إلى صديقه الشيخ الطالب لحبيب ، و لما أشرف على قرية بني وزيم أرسل أحد مرافقيه إلى بيت الطالب لحبيب ليخبره بمقدمه ، فما أن بلغه خبر قدوم صديقه حتى امتقع لونه و اضطرب حاله ، طأطأ رأسه قليلا ثم قال للمرسل :
" عد إلى شيخك و أبلغه تعازي الحارة في موتي "
أي قل له باللسان العامي :
" عظم الله أجرك في صديقك الطالب لحبيب "
لم يفهم المرسل شيئا ، فقال :
" ألست أنت الطالب لحبيب ، فكيف تعزيه في نفسك و أنت حي ترزق ؟ "
أجابه الطالب لحبيب و قد اغرورقت عيناه بالدموع :
" انقل له ما قلت لك و لا شأن لك بذلك "
رجع الرجل لتوه مهرولا مشدوها ،و نقل رسالة الطالب لحبيب لشيخه ، حينها فهم الشيخ العماري المقصود من الرسالة و أومأ برأسه إلى مرافقيه بمواصلة المسير نحو بوذنيب و قد لاحظ الدهشة بادية عليهم ، فطمأنهم و أخبرهم أن دهشتهم ستزول عندما يعرفون سر الرسالة .
جرت هذه الأحداث في أواسط الأربعينيات
بسبب الحرب العالمية الثانية و الجفاف حيث فقدت المؤونات و قلت المحاصيل الزراعية
و انتشرت الأوبئة و عمت المجاعة ،
و لكن رغم هذه الظروف العسيرة فقد استطاع الشيخ العماري نظرا لسمعته و ( بركته ) الحصول على بعض المؤونة من دقيق و سكر و شاي ، كما أهداه أحد الرحل من قبيلة ذوي منيع شاة سمينة ،
فأخذ هذه الأغراض كلها و أسرع عائدا إلى بني وزيم ، لما أشرف عليها ، أمر مرافقيه بحمل كل تلك
الأغراض إلى بيت صديقه الطالب لحبيب
و أوصاهما أن يقولا له :
" إن شيخنا يقرئك السلام ، و يقول لك خذ هذه المؤونة ، فهي صداقة تبعث الموتى "
نقل الرجلان الأغراض و الرسالة إلى الطالب لحبيب ، أخذ منهما المؤونة شاكرا و ناولها أهل بيته ليقوموا بواجب الضيافة ، ثم خرج للتو صحبة رفيقين له و استقبل الشيخ العماري و تعانقا عناقا حارا ، ثم دلف الجميع نحو البيت ، و اتضح للمرافقين لغز كلام الشيخين.
ترى هل توصلت عزيزي القارئ أنت كذلك لحل اللغز ؟
أما قوله أنني ميت ، فيقصد بذلك أنه ليس ببيته ما يمكن أن يقدمه لإكرام ضيوفه و لا سبيل لديه في تدارك الأمر لأن المجاعة أرخت بظلالها على الناس عامة ، و ما دام الأمر كذلك فقد اعتبر نفسه كالميت الذي لا حيلة له . أما الشيخ العماري فقد فهم المراد
من كلامه ، و ها هو قد أنقذ صديقه بهذه المساعدة ليحفظ له ماء وجهه أمام الضيوف .
و هكذا قضى الشيخ العماري و مرافقيه يومين كاملين لدى صاحبه في أكل و شرب و سمر شعري ، و في صبيحة اليوم الثالث خرج معهم الطالب لحبيب إلى المكان الذي استقبلهم فيه أول أمس ليودعهم و تلك عادة الأشياخ .
أما الشيخ محمد القنادسي ، فقد حدث مرة أن زار مدينة بشار سنة 1941 و هي السنة التي هجمت فيها أسراب الجراد على المنطقة فأتت على الأخضر و اليابس و كان من عادة الناس في مثل هذه الظاهرة أن يخرجوا عن بكرة أبيهم لطرد الجراد عن الحقول و البساتين بإشعال النيران لأن الدخان
يقضي على الجراد كما يحدثون جلبة بالضرب على الأواني التي تصدر أصواتا مزعجة لعلهم بذلك ينقذون القليل من المحاصيل .
في ذلك الوقت كان القائد ( حمو بركا ) أحد عملاء فرنسا هو الذي يحكم بشار و كان يجوب شوارع بشار رفقة معاونيه من المخازنية و يحرض الناس على مكافحة الجراد و لا يسمح لأحد بالتقاعس عن أداء هذا الواجب و إلا كان مصيره الاعتقال
و التعذيب .
في هذه الظروف دخل الشيخ محمد بشار ، فرآه القائد المذكور ، و طلب منه أن ينضم إلى الذين يكافحون الجراد ، فقيل له إن هذا الرجل شيخ من مرابطي الزاوية له وقار و تقدير عند الناس ، و لن يستطيع أن يتحمل المشقة نظرا لسنه ، و لكن القائد أصر على رأيه و نهره بغلظة أن يلتحق بأحد البساتين تحت رقابة المخازنية للعمل .
انصاع الشيخ لأوامره و ذهب الى حديقة مجاورة كان بها بعض العمال و جلس مستترا بين الأشجار
و طفق ينشد :
وسمو داخل يا حد دير في بشار
و دخلتو يا ودي راها تجيب لدية
و قبطوك لمخازنية كيف بومنقار
و كبيرهم حمو بركا ما يرد لمزية
نطلب ربي وصالحين يلصقوا ضرار
لداك الوجه لمخربش كوجه قندية
سيدي أحمد بناني بعيد للخطار
طلبتوا ياودي إوفي لي ذ المنية
طلبتو و طلبت ولادو صغار و كبار
إقبطوا حمو بركا بجنون كورية
و قبطو جن من جنون إقبطو لخرخار
و قادر مولانا في ساعة يقلب الحية
سيدي محمد بن بوزيان جايبك فالعار
انت و رجال الله الظاهرة و مخفية
تنزلو لو بلاء ربي يهدم الدار
لا تخلوا فيها حاجة تعود مكفية
إن تولى لحكام للعبيد يا حضار
فيه خير الحر يسلم و يساعف الدنيا
إلا ما سعفتوني في ذي يا الناس لحرار
ما بقى باش نعيط كاع يا الصوفية
هذه القصيدة خرجت من رحم المعاناة النفسية التي شعر بها الشيخ ، و الاحتقار و السخرية التي تعرض لها .
قضى يومه بين الأشجار و في المساء غادر بشار قاصدا زاويته بالقنادسة ، و بقيت القصيدة ترويها الناس جيلا عن جيل .
عزيزي القارئ قد يكون هذا آخر مقال أكتبه في هذا الملف " رجال بصموا تاريخ بوذنيب "
أتمنى أن تكون قد استفدت و استمتعت بما
تناولت فيه من سير بعض رجالات بوذنيب أحياء و أمواتا الذين تركوا لنا ذكريات جميلة و مواقف بطولية في شتى المجالات ، و هذا لا يعني أنني حصرت اللائحة عند هؤلاء فقط ، أبدا ، فأغلب أهالينا ببوذنيب لهم في القلب مكانة و في النفس تقدير ، و لكن هذا ما استطعت الاجتهاد فيه ،
و أتمنى أن أكون قد وفقت إلى حد ما فيما كتبته ، كما أهفو إلى أن يكون هذا العمل بمثابة حافز لكتاب آخرين من أبناء بلدتنا ليطلقوا العنان لأقلامهم ، فكما تعلمون أن شمسنا أشرفت على المغيب بفعل تقدمنا في السن ، و ربما أفكارنا لم تعد تساير العصر و أسلوبنا في الكتابة أصبح متجاوزا ، و أنا على يقين أن ببلدتنا كتابا و مثقفين هم أكثر منا تمكنا ، فليستعينوا بما ترك السلف
و لينطلقوا نحو مستقبل أفضل ، في ظل القيم النبيلة المتوارثة جيلا عن جيل ، و ما ذلك على شباب بوذنيب بعزيز .
لهذا أرجو من إخوتي البوذنيبيين و البوذنيبيات الذين يعشقون الكتابة و لهم إلمام باللغة يتقنون فنونها و يسبرون أغوار بلاغتها أن يكتبوا لنا مقالات قصيرة عن أي شاب من شباب بوذنيب لمسوا فيه السلوك الحسن و نبل الأخلاق و أبان عن موهبة أو تفوق في أي مجال من المجالات يجعلنا نرفع رؤوسنا و نفخر به ، و هذا ما نسعى إليه ، للتنويه بجهوده و تشجيعه على المواصلة نحو الأفضل من جهة و من جهة أخرى ليتخذه شبابنا قدوة في السلوك و العلم و العمل ، لأن
صلاح البلاد رهين بصلاح شبابها .
فمن يا ترى من كتابنا البوذنيبيين تكون له الريادة و السبق ليدشن لنا أول شخصية في ملف جديد بعنوان : " ذوو العزم من شباب بوذنيب "
و من يا ترى ذاك الشاب القدوة الذي يستفتح به هذا الملف .
ختاما أسأل الله العفو و العافية ، فأنا العبد المذنب لا أسعى من وراء هذا العمل إلا أن أرى بلدتي و أبناءها في أحسن حال ، كما أرجو أن أكون قد وضعت اللبنة الأولى في هذا الباب ،
و تركت بين أيديكم هذا العمل المتواضع ، تتذكرونا به و تترحمون علينا ، لعل بدعواتكم يغفر لنا سبحانه و تعالى ذنوبنا ، و يتجاوز عن سيئاتنا ،
و الله من وراء القصد عليم
💼 مشجعكم الغيور زايد وهنا 💼
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق