بسم الله
الرحمن الرحيم
حشف و
سوء كيل
قد تظن عزيزي القارئ أو المستمع أن ما أكتبه هو من
باب المبالغة و المزايدة ، غير أنه الحقيقة وكأنك تراها بأم عينيك ، و لا يمكنني
أن أخون ضميري و أعرض نفسي لغضب الله افتراء و كذبا ،بل هو الواقع المرالذي
ابتلينا به ، و لشدة مرارته ألتمس لك العذر إن لم تصدقه ، فأنا نفسي ما زلت مدعورا
متعجبا ، إذ سأخبرك عن إنسان ليس فيه من الإنسانية غير الإسم و الصورة ، أما ما
سوى ذلك من القيم النبيلة و المبادئ السامية ، فلا تعرف إلى نفسه سبيلا ، و أنى
لها أن تلتمس طريقها إليه و قد عجت ثناياه بكل ضروب الرذائل و النقائص ، التي تأبى
حتى الحيوانات العجماء من أن تتصف بها ، و يخجل الحمقى عن فطرة من الإتيان بمثلها
، و الأمر هو عندما تجمعك بهذا الصنف الهمجي ظروف العمل التي تحتم عليك رؤيته و
التحدث إليه و لو على مضض ، فتشعر في قرارة نفسك بخزي و كأنك تقترف جريرة عظيمة ،
و الأدهى من هذه المرارةهو أن يكون مثل هذا المستبد في مركز المسؤولية ، و هي
مسؤولية لا يدركها إلا المتمرسون المحنكون ، و مما يزيد الطين بلا إذا كان القطاع
الذي يجمعك به قطاعا حساسا يتطلب إلى جانب التمرس و الحنكة ،القدوة والكفاءة
والإخلاص والتواصل و هي التي ينعدم وجودها في قاموس صاحبنا حتى اقتنع الجميع أن
تولي مثل هؤلاء هكذا مناصب يعتبر من علامات الساعة ، و رغم هذه و ذاك نتناسى و نغض
الطرف سترا لأعراضنا ظنا منا أن مقابلة الإساءة بالإحسان قد تشفي مرضه العضال و
تغير شيئا من واقعنا البئيس ، فترانا نتصنع الإبتسامة المزيفة الباهتة عسى أن
تتحرك عجلة العمل ، فيعتد هو بنفسه ، مزهوا بضعفه ، مفتخرا بجهله ،متطاولا على أسياده ،و نسي الطين
يوما أنه طين ، بل نسي الدرن يوما أنه درن فلا يسعك إلا أن تقول ما قاله الشاعر
عمر أبو ريشة :
أمتي كم
صنم مجدته *****
لم يكن يحمل طهر الصنم
ولو أن كل المسؤولين في هذا القطاع على شاكلته –وهذا
غير ممكن إذ يستحيل أن تجد لهذا الخسيس شبيها – فكبر على هذا القطاع أربعا و اقرأ
الفاتحة ترحما عليه، فقد ضاع العلم و المتعلم، و لعل من أسباب انحطاط المستوى وجود
مثل هؤلاء المخبولين فيه، فكان قليلا ما يبدي ظاهرا متبلجا نفاقا و تلاونا ، و
يضمر باطنا متجهما ، فيذكرك بقول الشريف الرضي :
فأبدى كروض الحزن رفت فروعه ***
وأضمر كالليل الخداري مظلمـا
ولو أنني كشفتــــه عن ضميـــــره ***لأقمت على ما بيننا اليوم مأتما
و كم كانت المآتم كثيرة و متكررة ، حتى فاح ريحها
النتن ، و انتشر زكمها في كل الأوساط إذ لم يبق من لم يصله من عفنها نصيب ، فقام
بعض الغيورين من ذوي البر و أولي النهى ناصحينا واعظين إياه ، لكن سرعان ما
انصرفوا يائسين بعدما تبين لهم أنه لا و لم ولن يتعظ و يتراجع عن غيه ، و سألوا
الله لنا الصبر و السلوان و انقطعوا حتى من زيارتنا على غير عادتهم من قبل ، وكيف يتعظ من لم تنهاه صلاته ، إذ في
مثله يقول أحمد شوقي :
قالوا و خير القول رأي العارفين
*** مخطيء من ظن يوما أن للثعلب دينا
كل هذا و لا فكر صاحبنا يوما في مراجعة نفسه و
مجاهدتها على نبذ الشر و الخبث اللذان استحوذا عليها ،عساه يستجلب بدلهما الخير و
السعادة رحمة بنفسه و بمحيطه و صدق الشاعر حين قال :
وكم صاحب كالرمح لانت كعوبه ***
أبى بعد طول الغمــز أن يتقــوم
قال بعضهم ليس من العيب أن يعرض المريض نفسه على
طبيب بل أطباء نفسانيين لعلهم يحرروا و لو
جزءا يسيرا من عقده المرضية ، غير أنني أعلم علم اليقين أنهم و لو اجتمعوا سيحارون
في تحليل شخصيته، بل سيعجزون أمام هذه الظاهرة البشرية المعقدة و سيستسلمون لا
محالة،إذ لم يسبق لهم أن رأوا مثلها عند البشر و أي أدوية مهما كانت فعاليتها لن
تجدي نفعا في مثل هذه الحالة المستعصية.
أما أنا و بعد عدة محاولات يائسة فقد سقط من عيني،
و أصبح أرذل الناس في نظري و كان رأس ما أرذله عندي خبثه و مكره ونفاقه و كبره،و
هي نقائص أورثها إياه الجهل، فلا يقبل ما لا يفهم ولا يعترف إذا أفهمته ، بل
يتعالم فيما يجهل ، و لا يحقق شيئا مما يدعي أنه يعلم ، فهو أشبه بالدخان يعلو
تجبرا و هو وضيع ، لذلك كنت أقصد العمل و رجلاي لا تطاوعاني ، أبتسم لمن يلاقيني
مكابرة علي أخفي عن الناس توتري، لا الناس تعرف ما خطبي فتعذرني و لا سبيل لديهم
في مواساتي، فتورت الصدور غيظا و تجرعت الأنفس غصة، حتى قال بعضهم إنكم طيبون
مجدون ، فلم توانيتم في مواجهة هذا السرطان ، لله درهم و كيف تواجه سفيها أسندت
إليه الأمور من غير أهلية و لا استحقاق ، إذ لم يكن شيئا مذكورا من قبل و لا من
بعد ، فاعتبر المنصب تشريفا لإرضاء غواية نفسه لا تكليفا للقيام بالواجب على الوجه
المرغوب ، و كيف تواجه من لم يصن عرضا و يخشى خلقا و يستحيي مخلوقا ، فأصبح الأمر
كما قال الشريف الرضي :
كعضو رمت فيه الليالي بفـــادح
*** و من حمل العضو الأليـم تألم
إذا أمر الطب اللبيب بقطعـــــــه ***
أقول عسى ظنا به و لعلــــــم
دع المرء مطويا على ما ذممته *** ولا تنشر الداء العضـال فتندم
و هكذا اجتمعت و تأصلت فيه مساوئ الخلق ، فأضحى
الإنتقام غايته في إثبات الذات ضعفا لا غلبة ، إذ أفة الشر لا تغدو تفارقه ، و
عنتريته البلهاء حتى مع الأطفال كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد ، ثم ما يلبث أن
يجد نفسه في مأزق بجهله و اندفاعه ، فيتلجلج في حبائله و يتلمس الخلاص لنفسه
متوسلا تارة و مستعطفا أخرى ، و ما ينفك يخرج من الشرك حتى يستأسـد مرة أخرى ، و
قد نسي البليـد خضوعـه بمذلـة و احتقار في موقف الأمس ،أما فيما يخص العمل المجدي
و المصلحة الفضلى التي وضع من أجلها ، فلا يهمه منها إلا ما يفرض عليه قهرا و
إلزاما من الجهات العليا خوفا لا حبا في الجد ، هذه الجهات التي لا يهمها هي
الأخرى إلا أن تسد الخصاص و تملأ الفراغ بمن يناسب و من لا يناسب ، و ما عدا ذلك
فهو المتهاون المهمل المتغيب في أغلب الأحيان بعد أن سد جميع الأبواب و احتجز كل
الوسائل المساعدة في العمل فأصبحت ملكا خاصا له يتصرف فيها كيف يشاء ، و كما يحلو
له دون رقيب، و من غير أن يستفيد منها الذين وضعت من أجلهم.
لمثل هذا يذوب القلب من كمد ***
إن كان في القلب إسلام و إيمان
و لاأخفيك عزيزي القارئ ، أنه في أحيان كثيرة
نتساءل : أي ذنب اقترفناه لنبتلى بهذا الوضع الغير المريح ؟، اللهم إن كان هذا
ابتلاء منك فنحن به راضون و لقضائك خاضعون، فقد ضقنا ذرعا و قاسينا ما فيه الكفاية
للتكفير عن أي جرم ارتكبناه ، فارفع عنا مقتك ، إنه من شر ما خلقت و اجعل لنا من
أمره مخرجا ،إنه لا حول لنا و لا قوة إلا بك ، إنك تعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور،
و اختتم بهذه الأشعار في انتظار أن يجعل الله من أمره يسرا :
أنا الذي ضاع لي عامان من عمري *** باركت
وهمي و صدقت افتراضاتي
عامان ما رف لي لحن على وتـــــــر
*** ولا استفاقت على نور سماواتــــــي
أعتق الصبر في قلبي فأعصـــــــــره
*** فيورق الشوك ينمو في حشاشاتـــــي
لو أردت المراكز ما استعصت علــي
*** و لكن حب العلم و التعلم غاياتــــــي
خانك التكليـــف
فاستسمنت ذا ورم ***أم غرك المركز
الخداع هيهــــــــات
من لي بحذف طيفك المسخ من خلدي
*** إذن ستمسي بلا ذليل قصيداتــــــــي
ليس من شيمي أن أذكر عيوب الناس ، لأن لي عيوبي ،
غير أن العيوب إذا استفحلت و وصلت الحد الذي لا يطاق ، فإنها تتفجر و لو على الورق
، و أنا أكتبها فإن نفسي تتمزق إربا إربا
إذ طالما تمنيت أن أكتب العكس تماما ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ، فالذنب
على من كان سببا في كتابتها و لو شاء الله أن يغير سلوكه الى الأحسن لكنت أول
المهنئيين المسرورين و أعدك عزيزي القارئ أن أكتب مقالا مفصلا عن فضائله ، و لكن لا أظنه يتغير، فقد صدق من قال : " من شب على شيء شاب عليه " ، وكما
يعرف الكل أن الدنيا مآلها إلى الزوال ، و أن حالها لا يدوم على شأن ، و أن الفراق
محتوم بين الناس ، و ليس لك من الدنيا حيا كنت أم ميتا إلا الذكر الحسن ، فازرع ما
يذكرك به الناس فهو رأسمالك منها .
و عاشر الناس بخلق حسن **** تحمد عليه زمن التفــــــرق
اللهم بصرنا بعيوبنا و اجعل التواضع سبيل تعلمنا
يا أرحم الراحمين يا رب العالمين
و صلى الله و سلم و بارك على من هو على خلق عظيم و
آله و صحبه و من سار على نهجه إلى يوم الدين .
و السلام عليك أخي القارئ و رحمة
الله و بركاته .