وصية في الاتجاه المعاكس

         🔍 وصية في الاتجاه المعاكس 🔍


            جلس عجوز يوما إلى ابنه الشاب يحدثه ، فقال : " يا بني لقد بلغت من الكبر مبلغ الوهن 

و العجز ، و أشرفت شمس أيامي على الغروب ، ربما قد تستيقظ يوما يا ولدي فتجدني جثة هامدة ، لهذا أريدك أن تسمع مني هذه الوصايا ما دامت روحي بين جوانحي .

يا بني لقد عشت زمنا طويلا و هاأنذا قد نيفت على الثمانين ، تشربت من الدنيا حلوها و تجرعت

مرها ووجدت أن مرارتها أكثر من حلاوتها ، و أن

لحظات سعادتها قليلة و زائلة بينما بؤسها

و شقاؤها دائمان متصلان يكسران تلك الأويقات 

القليلة السعيدة ، و أن ليس للمرء في حياته إلا ما غنمه من سعادة  في طفولته قبل أن يتحمل العبء و يخوض غمار الحياة كأنه مصارع  في ميدان المبارزة فلا يكاد يخرج من قتام حتى يدخل في آخر فينتصر حينا و ينهزم أحيانا كثيرة  .

منذ أن بلغت سن الرشد و تسلمت زمام أمري و أنا 

أخوض هذه المعارك بدءا بالبحث عن لقمة العيش

لأعول نفسي و أهلي ، فكنت كلما ظننت أنني انتصرت و وفرت قليلا من المال إلا و نزلت بساحتي فاجعة من فجائع الدهر فتذهب بما جمعت و تطمع في الذي سأجمع .

لا أنكر حقا أن بعض هذه الصروف كانت بسبب قراراتي الخاطئة و تقديراتي السيئة ، و لكن صروفا أخرى كانت خارجة عن إراداتي و لا يد لي فيها ، فما الحيلة يا بني و قد ولدت في مجتمع متخلف لا كرامة للإنسان فيه ، مجتمع عبارة عن مستنقع يسوده الاستبداد و الظلم و الفساد ، الغلبة فيه للمال الحرام و أصحابه ، التافه فيه ممجد محظوظ و الصالح مهمش منبوذ ، يرى البشاعة بعينيه و لا يستطيع أن يغير منها شيئا لأنه مسلوب الإرادة ، مغلوب على أمره و لو فكر يوما أن يسبح ضد التيار و يعبر عما يؤرقه ، سيصبح حالة شاذة تحاصر أو يزج بها في السجن ، فلا يملك غير مجاراة الظروف و مداراة البشاعة و لو على مضض ، فكيف لمثله أن يهنأ له عيش أو يجد للحياة مذاقا .

أما قراراتي الخاطئة فكثيرة ، ذلك أن سوء قراءتي 

لهذا المجتمع الذي أعيش فيه جعلني أرتكب أخطاء فادحة . فشلت في الزواج ثلاث مرات 

و عانيت الكثير من تبعات الطلاق  ،  فكان لزاما علي في المرة الرابعة أن أخضع للأمر الواقع 

و أتحمل طباع الزوجة مهما كان الحال حتى لا أكون سخرية تلوكني الأفواه ، فكانت هذه الرابعة هي أمك يا بني التي ولدتك و أنجبت بعدك إخوتك الخمسة ظنا منها أنكم على كثرتكم ستكونون عونا لنا ولكن للأسف ففي مثل هذه الظروف أنتم عالة علينا ، أثقلتم كاهلنا  ، فلم نعد نفكر في أنفسنا بقدر ما نفكر في إعالتكم 

و تربيتكم ، و رغم ذلك سهرنا على تربيتكم التربية الحسنة و لقناكم مكارم الأخلاق ظنا منا أنها السبيل الأقوم في مواجهة صعاب الحياة و لكن اتضح لنا أن التفاهة و السفاهة و الخذلان 

و المصالح الشخصية هي العملة الرائجة ، 

و أصحابها هم المحبورون  المنعمون ، أما الصالحون المصلحون فهم المهمشون البائسون.

إذن أقبل مني يا ولدي و اسمع عني و خذ بما أوصيك به و استفد من تجربتي حتى لا تكرر نفس الأخطاء التي وقعت فيها ، حينها تخنقك الغصة 

و تعض على الأنامل ندما و لكن أنى  ينفعك الندم .

اعتز بوطنك و اجعل حبه نصب عينيك و لكن إذا ضاق بك العيش فيه و أتيحت لك فرصة العيش في قطر آخر هو أحفظ لكرامتك فلا تفوت عليك الفرصة و هاجر فأرض الله واسعة ، و إذا لم يحالفك الحظ و بقيت في مستنقعك فأنصحك ألا تتزوج بل عش حرا طليقا كابد همومك لوحدك و لا تحمل نفسك هموم من ارتبطت بها ، فإن حدث 

و ارتبطت فلا تنجب وإن أنجبت فلا تكثر ، و دع عنك القيم التي ربيتك عليها و اتجه بنفسك نحو التفاهة فهي الوسيلة المثلى لكسب المال و الشهرة في أيامنا هذه ، أتدري لماذا لأنك لست في مجتمع نظيف ، أما إذا تتبعت خطاي فاعلم أنك ستقضي بقية عمرك تعيسا كما قضيتها أنا و ما زلت أتجرع عواقبها ".

             في تلك اللحظة دخلت عليهما الأم و هي تحمل طبق الشاي ، و لم تكد تعتدل في جلستها حتى صرخت في وجه زوجها ، موجهة الخطاب نحو ابنها قائلة :

 " لقد سمعت كل شيء و أنا أعد لكما الشاي في المطبخ ، فقد صدق أبوك فيما حدثك به  ، إلا وصيته الأخيرة هذه فلا أظنها تليق بك و لا أخالها توصلك إلى شط الأمان .

 يابني لا تغادر وطنك لتعمل في وطن آخر ، فبلدك يحتاج إليك رغم ما فيه من عيوب و نقائص حاول أن تتحدى الصعاب ، إنه لا يرفع شأن البلاد إلا أبناؤها ، أما العمل في بلدان المهجر فنفعه محصور على الأجر الذي يتقاضاه العامل و لو كان كافيا 

و زيادة ، فهم يبنون حضارتهم من عرق الطبقة العاملة من المهاجرين ، فلا يغرنك ما تراه من سعة أحوال المهاجرين المادية و هم يقضون إجازاتهم بيننا ، فإنك لو اطلعت على معاناتهم النفسية من جراء الغربة في المهجر لما رغبت في مغادرة بلدك ، فنار الغربة حارقة و لا يشعر  بلوعتها إلا من فارق الأهل و العشيرة .

يا ولدي لا تفرط في القيم التي ربيناك عليها 

فمهما طال ظلام الليل لا بد أن يمحوه لسان الصبح ، أما تعلم أن التدافع بين الخير و الشر قائم في كل عصر و مصر  إلى أن يرث الله الأرض و من عليها.

 شمر عن ساعد الجد و العزم و تمسك بدينك 

و تشبث بقيمك ، و اسلك سبل الرشاد و لا تغرنك التفاهة ، فإن فعلت فقد برأت نفسك و أخذت بالأسباب و ما عدا ذلك فهو بيد من لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء يدبره كيف شاءت حكمته . 

تزوج عندما تجد من تليق بك و اختر لنفسك العفيفة من النساء لتساعدك على مشاق الدهر  

و تحسن تربية أبنائكما ، فتلك سنة الحياة التي بها يتم الاستخلاف في الأرض و لا استقرار للمرء إلا في دفء الأسرة ، و اقنع بما قسم الله لك ، فلا تنظر إلى من هو أفضل منك بل أنظر إلى من هو دونك و اعلم أن الأرزاق بيد واهبها و أن الكل ميسر لما خلق له .

يا بني اعمل بما قلت لك و لا تعمل بما أوصاك به 

أبوك ، فهو حقا قست عليه ظروف الحياة فجعلته ينظر إليها بمنظار الساخط المتشائم ، و زاده الهرم و العجز بؤسا على بؤسه لذلك أظلمت الدنيا في عينيه فلا يرى فيها إلا السواد " .

               نهض الشاب دون أن ينبس ببنت شفة و غادر الغرفة إلى غرفة النوم و جلس على حافة السرير يفكر في قول والديه و يعيد شريط الوصيتين المتناقضتين و كأنه يبحث عن مبرر ليرجح إحداهما على الأخرى ، و بعد طول تفكير صمم العزم على الأخذ بوصية والدته .

في صباح اليوم الموالي جمع أمتعته و ودع والديه  بعد أن ترك شهادة إجازته الأدبية أمانة عند أمه للذكرى فقط ، إذ لم تعد لها أي قيمة تذكر ، فسوق الشغل تطلب الإجازات و الدبلومات العلمية و هذه في الغالب كذلك ليست كافية إذ لم تدعم بالقليل من المحسوبية و الزبونية ، و بهذا اقتنع المسكين أن لا سبيل لكسب العيش غير ما يأتي بعرق الجبين ، لذلك  قصد المدينة للعمل في أوراش للبناء . 

 

  

                           ✏  بقلم  زايد وهنا  ✏

  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق