أنيس المجالس

                 🌹  أنيس المجالس  🌹


               اسمه " عبد القادر فاتيحي " و لكن أهل 

البلد ينادونه ب " قادا فاتيحي " ، رجل جمع فيه

من نبل الأخلاق الكثير ، غير أن بشاشته و خفة ظله غلبت كل طباعه ، فجعلت منه رجل نكتة بامتياز لا يقارعه أو يجاريه فيها أحد ، حتى أضحت مجالس الأنس بدونه ناقصة ، لأنه كما يصفه الناس بمثابة الملح للطعام ، يحكي نوادر 

و طرائف مضحكة استقاها من تجاربه الخاصة في

الحياة و ما أكثرها ، و لهذا استمال قلوب الناس إليه و نال محبتهم له ، فتراهم يدعونه لكل وليمة

ليضفي عليها من فكاهته ما يبهج الحاضرين 

و يسرهم ، خصوصا في زمن كهذا الذي استحوذت

فيه الكآبة و التضجر على نفوس الناس بفعل تقلبات الدهر و مستجداته التي لم تعد ترق لأحد ممن يتمسكون بالقيم الفاضلة و المبادئ السامية التي نشأوا عليها و لم يستطيعوا التفريط فيها .

و لعل هذه الصفة و غيرها من صفاته الحميدة هي

ما جعلني أحب هذا الرجل في الله ، و أكن له كامل التقدير و أرغب في مجالسته رفقة ثلة من

الصحاب الذين لا يقلون عنه أنسا .

أطال الله في عمره و أدام عليه نعمة القناعة 

و البشاشة ، و جعل له بكل ابتسامة يرسمها في وجوه الناس صدقة .


                 ✏  محبك في الله  زايد وهنا  ✏

العجب

 🔽   العجب  🔼


             من عجيب الأمر و أغربه ما حدث من تغيرات اجتماعية في بلدتي في مدة وجيزة لا تتعدى ست سنوات ، هذه البلدة التي ولدت بها و ترعرعت في أحضانها إلى أن بلغت سن العطاء ، فعملت مدرسا بها بالمدرسة الابتدائية نفسها التي تتلمذت فيها على يد أساتذة أفاضل ، رحم الله من غادرنا منهم إلى دار البقاء ، و أطال الله في عمر من هم على قيد الحياة ، و الشكر و التقدير و الامتنان لهم جميعا أحياءا و أمواتا .

عملت في التدريس ببلدتي لمدة أربع و ثلاثين سنة ، و لم أغادرها إلا قبل ست سنوات خلت ، كنت خلالها أقوم بزيارة البلدة مرة أو مرتين في السنة ، و لكن ما أثار استغرابي هو أن هذه المدة القصيرة التي تركت فيها البلدة كانت كافية لتحدث بها تغييرا جذريا ، لا على مستوى عمرانها أو مصالحها أو بناها التحتية أبدا فهذه كلها بقيت كما كانت أو زادت سوءا ، فالبلدة ترزح تحت التهميش ، و لا يزيدها مرور الزمن إلا تدهورا و إقصاءا على جميع الأصعدة ، و لكن أقصد بالتغيير هو ما عرفته من اكتظاظ بأناس أجانب عنها ، إذ بفعل غنى فرشتها المائية الجوفية ، و ملاءمة أراضيها لاستنبات أشجار النخيل ، أحدثت بها و بضواحيها ضيعات فلاحية لانتاج التمور ، خاصة و أن البلدة تشتهر بأجود أنواعها ، و لم تترك منها بقعة إلا و أصبحت ضيعة ، حتى

ليخيل إليك أن عدد الضيعات يفوق عدد الساكنة الأصليين ، و هو ما دفع  أصحابها للبحث عن اليد العاملة بأي ثمن ، مما جعل العمال يؤمونها من كل حدب و صوب قصد العمل بها ، فغصت البلدة بالعمال و ضجت بالحركة و هذا حقا ساهم بصورة واضحة في تحريك عجلة البيع و الشراء ، و أصبح

الطلب على منازل للكراء أمرا ملحا .

المؤسف هو أنه رغم هذه الأعداد من الوافدين عليها إضافة إلى السكان الأصليين و الأعداد الكبيرة من الجنود التي ترابط بها باعتبار البلدة قاعدة عسكرية منذ القديم ، إلا أن مرافقها تعرف نقصا كبيرا و ضعفا فضيعا في جميع القطاعات 

و بالخصوص في القطاع الحساس ذي الأهمية القصوى 

ألا و هو قطاع الصحة ، ففي البلدة مستوصف صغير شبيه بالمستوصفات الموجودة في القرى الصغيرة النائية ،  حالته تبعث على اليأس إذ يعرف ضعفا بل عجزا في تقديم الخدمات لهذا العدد الهائل من الساكنة ، فكثيرا ما يبقى لمدة طويلة من غير طبيب مما يجبر الناس على التنقل إلى المدن قصد الاستشفاء .

كنت إذا أتيتها زائرا أحلم بأن أجد شيئا من هذا قد تغير 

و لكن للأسف دار لقمان على حالها إن لم أقل تزداد أمورها سوءا ، تراني أتجول في أرجائها و أنا أشعر بنوع من الغربة 

و كأنني غريب عنها ، فبعد أن كنت أعرف كل أهاليها دون استثناء ، أصبحت بعد هذه المدة القصيرة التي تركت فيها البلدة لا أعرف من المارة إلا القلة القليلة ، أما أغلب من 

أصادفهم فهم وجوه غريبة عني . 

مررت بالقرب من دار الشباب ، و وقفت ببابها الخارجي ، فإذا هي خاوية على عروشها ، ينعق الغراب على سطحها ، و كأنها طلل يقف عليه شاعر متيم ولهان ، لم أتمالك نفسي إذ همى من عيني دمع ساخن ، مسحته بكم قميصي قبل أن يلحظه

المارة .

لقد تغير كل شيء ، كانت بلدتي و إلى عهد قريب تعرف حركة أدبية و ثقافية قل نظيرهما ، قلما يمر شهر دون أن تنظم إحدى الجمعيات الفاعلة نشاطا هادفا تغص له قاعة دار الشباب بالحاضرين من فئات مختلفة ، قد تكون محاضرة أو ندوة أو أمسية شعرية أو فنية أو مسابقة ثقافية يستفيد

منها التلاميذ أو غير ذلك مما يمتع و يفيد .كما أن البلدة عرفت تنظيم ملتقيات كبرى خلفت صدى واسعا في الأوساط المحلية و الوطنية ، حضرها أدباء و فنانون من العيار الثقيل و أشادوا بها و بحسن الضيافة و دقة التنظيم رغم الإمكانيات المتواضعة ، و نذكر منها بالخصوص ملتقى بوذنيب للإبداع الذي تنظمه جمعية الواحة ، و كذا مهرجان أولاد علي ، هذه التظاهرات التي ملأت سمعتها الأفاق و صار لها إشعاع امتد شرقا و غربا حتى صار يضرب به المثل من قبل الشخصيات الوازنة التي كانت تحضر فعالياته .

للأسف الشديد و بين عشية و ضحاها صار كل هذا في خبر كان ، و هنا ثمة سؤال يطرح نفسه بإلحاح ، ما السبب أو الأسباب التي أوقفت تلك العجلة عن مواصلة سيرها ، و أين يكمن الخلل ؟ و إن كانت ، فلماذا لم تستأنف سيرها بعد انتفاء الأسباب و إصلاح الخلل ؟  

الجواب عن هذا السؤال بيد القراء ، و بيد جمعيات البلدة ، أود من الجميع أن يدلني عليه فقد احترت في أمره و لم أعد أطيق صبرا ، لأن غيرتي على بلدتي يزداد لهيبها احتراقا كلما قارنتها ببلدات أخرى ، خاصة و أنا أعلم أن بها طاقات 

و هامات فكرية يمكنها نفض الغبار و إرجاع البريق

و اللمعان على الأقل للأدب و الثقافة كما كان سابقا و أكثر 

و هذا ليس بالأمر الصعب ، و لا ملامة عليهم في باقي القطاعات الأخرى  إن لم يجدوا إلى إصلاحها سبيلا .


                         ✏  الغيور  زايد وهنا   ✏

العطار

                   🍭    العطار   🍭


          أسعد الأيام بالنسبة إلينا و نحن أطفال هي 

تلك الأيام التي يقضيها العطار بين ظهرانينا ، فقد

اعتاد أن يزور البلدة مرتين في السنة ، ينصب خيمته وسط الحي و يعرض بضاعته المتواضعة

التي تتكون أساسا من أنواع التوابل و الأعشاب

الطبية و بعض أدوات الزينة الخاصة بالنساء ،

و إلى جانب هذه الأساسيات يعرض كذلك بعض 

الأواني المنزلية البسيطة ، تأتي في مقدمتها كؤوس زجاجية صغيرة الحجم ، دون أن ننسى ما يهمنا نحن الأطفال من حلوى و حمص و نبق 

و ( كلل ) أو كرات ( بلي )  وهي تلك الكويرات الزجاجية التي يدحرجها الأطفال على الأرض 

و التي لها قواعد خاصة متفق عليها بين الجميع .

و رغم أننا لا نملك نقودا لاقتناء ما يستهوينا نحن

الصغار عند العطار ، فقد كنا نحصل عليها بالمقايضة و هي تسهيلات يقدمها العطار لنا لأنه

هو الرابح الأكبر من هذه المقايضة .

كنا نقايض كأسا صغيرة بقفة من تمر أو نحصل على بعض حبات الحلوى او الحمص مقابل بيضتين أو ثلاث ، و لكن ما كنا نرغب فيه بشدة

هي الكلل الزجاجية ذات الألوان البراقة ، فهذه

نظرا لأهميتها فقد كنا نقايضها بصاع من الحبوب

قمحا أو ذرة ، لأننا نتفاخر بكثرة عددها بين 

أقراننا ، فإذا منعنا حلول الظلام من اللعب بها ،

دخلنا منازلنا و أخرجنا الكأس الصغيرة من 

مخبئها ، نمسكها بأيدينا و نحضنها في انتظار أن تملأ بالشاي إذ لا نشربه إلا فيها ، و لا يجوز لغيرنا

أن يستعملها ، فهي خاصة بنا ونحن من قايضنا من

أجلها ، و كم يكون حزننا شديدا إذا تكسرت الكأس

نقضي الليل نجمع ما يقبله العطار للمقايضة في

انتظار الصباح للحصول على كأس جديدة .

هكذا يمر ذلك الأسبوع الذي يقضيه العطار بيننا ،

فإذا أيقن أن وتيرة البيع و الشراء بدأت تفتر ،  جمع متاعه و انتقل إلى بلدة أخرى بعد أن يعدنا 

بالعودة مرة أخرى كالمعتاد و معه بضاعة جديدة 

و عصرية كما يدعي هو ، فنبقى نحن ننتظر موعد

قدومه بشوق لنجدد الكلل أي الكويرات الزجاجية

التي لحقتها الكسور و الخدوش أو تلك التي خسرناها أثناء اللعب مع الأقران .


             ✏  من ذكريات طفولة زايد وهنا  ✏

المتبركون

                        👌  المتبركون  👌


          رغم أنني قضيت ست سنوات بهذه المدينة

فأنا لم أكتشف بعد كل المناطق المجاورة لها ، نعم زرت الكثير منها خصوصا تلك السياحية التي يرتادها الناس ليستمتعوا بجمال الطبيعة 

و الترويح عن النفس ، و ما زلت من حين لآخر أقوم رفقة أسرتي بزيارة بعض الأمكنة التي أسمع الناس يتحدثون عنها و لم يسبق لي أن رأيتها .

و لعل أغلب حديث أهل المدينة كان يدور حول

مكان به ولي صالح حسب معتقدهم ، يؤمه الناس

من كل حدب و صوب لزيارته و طلب البركة منه ،

بل منهم من حقق له مطلبه من الزيارة الأولى ،

و غير ذلك من المكرمات التي تميز هذا الولي الصالح ، كنت أستمع لأحاديثهم هذه بنوع من

الازدراء و الاشمئزاز و لكني لا أبدي لهم ما في

نفسي بل أستدرجهم للحديث في أمور أخرى 

حتى لا أدخل معهم في جدال لن نخرج منه بنتيجة نظرا لتغلغل هذه الأفكار الخرافية في نفوسهم و لا سبيل لإزالتها مهما فعلت ، لذلك تجدني ممتعضا مما أسمع  فكنت صراحة لا أصدق

هذه الخرافات و أمقت مجرد الخوض فيها .

في يوم أحد ، قررت أن أزور القرية حيث دفن الولي الصالح ، لا رغبة في زيارة ضريحه و لكن لأتعرف القرية و طبيعتها الجبلية قصد الترويح عن النفس من روتين العمل الدؤوب طيلة

الأسبوع ، و كسر رتابة الحياة لتجديد النشاط 

و شحذ الهمة على مواصلة الجد و لو أن العزيمة

بدأت تفتر و القوة البدنية بدأت هي الأخرى تخور

خصوصا بعد الستين من العمر .

لم تكن القرية سوى بعض الأبنية و المتاجر الصغيرة التي تحيط بالضريح ، تجولت بين أزقتها

الضيقة و كنت أقف أمام واجهات المتاجر لأتفحص السلع المعروضة ، لعلني أعجب بمنتوج فأقتنيه ، و لكن لا شيء يغري بالاقتناء ، فالسلع

المعروضة لا تخرج عن نوع البضاعة التي يقتنيها

الزوار ليتبركوا بها كقربان للولي الصالح ، زيادة

على الهدايا و الهبات التي يحملونها معهم لتقديمها

للقيم على الضريح ، و لو أن الهبات التي تنفق على

الأموات في كل الأضرحة و ما أكثرها صرفت للأحياء الفقراء لكان خيرا لهم و لاستجاب الله دعاءهم .

توجهت نحو باب الضريح بخطى متثاقلة لأستطلع الأمر و أتحقق مما يروجه أهالي المنطقة ، و ما كدت ألج سقيفته حتى اختنقت أنفاسي بدخان البخور الذي لوث المكان ، تقدمت ببطء وأنا غير راض عن نفسي و كأن شيئا في صدري يعاتبني ، اعتراني الشعور بالخجل و النقص كمن يرتكب كبيرة ، و لكن تشجعت و أنا أبرر فعلي و أقنع نفسي أنني ما دخلت للتبرك كما يفعل الزوار 

و إنما هو فضول الاستطلاع فقط .

الضريح عبارة عن صندوق كبير ، ينتصب وسط بهو واسع ، تكسوه أغطية وحلل قشيبة و حوله

الزوار رجالا و نساءا ، شبابا و شيابا ، يتمسحون

به في خضوع و تذلل و هم يمررون أيديهم على وجوههم و كأني بهم ينقلون البركة إلى صدورهم ، بل منهم من جعل الضريح متكأ يستند إليه و كأنه في حضن أمه ، و منهم من لا يفتر لسانه عن التلهج  بالدعاء و التضرع للولي بأن يشفي سقمه أو يفك عقدة عقمه أو يرد عنه سحر ساحر أو غير ذلك من الطلبات و التوسلات ، و لو كان الأموات  ينطقون  لنهرهم الدفين قائلا : " انفضوا من حولي أيها الجهلة ، أنا بريء منكم و مما تدعون ، لست إلا عبدا مذنبا مثلكم لا حول لي و لا قوة ، أنا من في حاجة إلى دعائكم لي بالرحمة و المغفرة عساني أنجو من العذاب ، أما أنتم فلستم في حاجة إلي بل توبوا إلى الله جميعا ما دمتم أحياء ، 

و استغفروه قبل أن تصيروا إلى ما صرت إليه ، 

و اسألوه جلت قدرته من كل خير تريدونه ، و لا تجعلوا بينكم و بينه وسيط ، فهو وحده القادر على تحقيق رغباتكم ، إن شاء عجل بها و إن شاء أخرها و إن شاء منعها و في كل الأحوال يكون الخير فيما اختاره ، لأنه سبحانه و تعالى يعلم ما لا تعلمون " . 

هذا و أغرب شيء زاد من ريبتي و تعجبي أن من بين الزوار رجالا أنيقين و نساء في مقتبل العمر أنيقات و شابات يافعات ، يظهر من خلال مظاهرهم البراقة أنهم على مستوى لا بأس به من الثقافة و الوعي ، إذن كيف تطاوعهم أنفسهم أن يستعطفوا مخلوقا لا يملك لنفسه و لهم شيئا ،

و نسوا خالقهم الذي بيده الخير كله ، ( نسوا الله فأنساهم أنفسهم ... ) ثم من أخبرهم خبر اليقين أن هذا الدفين هو حقا من أولياء الله الصالحين ،

إذ لا يعلم سرائر الناس إلا الله .

و استفسارات أخرى تتراكم في رأسي و لا أجد لها تفسيرا غير الجهل و الخرافة اللذين استحوذا على عقول هؤلاء . 

كم وددت أن أحاور أحدهم لأتأكد من صدق أحكامي و لكن عدم معرفتي بأي منهم حال دون

ذلك ، غير أنني وجدت من يشبع فضولي غير بعيد عن الضريح في مقهى حيث احتسيت فنجان قهوة

و استدرجت النادل للحديث عن هذه الأمور ، 

فأخبرني بما لا يدع مجالا للشك أن بعض الزوار

يشتغلون في أسلاك مختلفة من الوظيفة العمومية

يتعجب المرء أن يرى أمثالهم في هذا المكان 

و يستبعد أن يراهم على هذه الحال .

أخرجت من صدري زفيرا حارا و أنا أغادر المكان ، و شعرت في قرارة نفسي أنني ارتكبت جرما في حقها إذ أجبرتها على رؤية ما لا تستسيغه ، 

و لكنني أعود فأهدئ من روعها بأني ما فعلته إلا لأقف على الحقيقة بنفسي .

لقد أيقنت الآن أنه ليس كل مثقف هو إنسان واع ،

شتان بين الوعي و الثقافة ، و شتان بين الإيمان

الراسخ الصادق الطاهر الذي يكون فيه التوكل على الله وحده في جميع الحركات و السكنات 

و بين وسوسة الشيطان التي توقع الناس في الشرك الأكبر .


                               ✏ بقلم  زايد  وهنا  ✏

 


الرباط الوثيق

               الرباط الوثيق 


         لا يمكن لأي بوذنيبي يمر بالحقول المحادية لواد كير خلف المدرسة المختلطة  دون أن يلفت انتباهه وجود المرحوم ( با لحسن  ) و هو منهمك في أعماله الزراعية ، له ارتباط وثيق بالأرض ، لا يثنيه عن العمل قر الشتاء و لا حر الصيف ، يعتني بها اعتناءا منقطع النظير ، و كأنها فلذة كبده ، يأتي الحقل باكرا قبل أن ترسل الشمس أول شعاع لها ، و لا يغادره إلا عند حلول الظلام ، قاصدا بيته ليأخذ قسطا من الراحة في انتظار بزوغ فجر جديد ليلتحق بالحقل ، و هكذا دواليك .

رجل مجد كتوم لا يختلط بالناس أبدا ، لا يمكن

أن تراه في أي مكان غير الحقل نهارا و البيت ليلا،

ما ثبت يوما أن شوهد في مكان غيرهما ، حتى منتوجات حقله فقد كان أبناؤه هم من يتولون بيع غلاتها في السوق ، هذا هو ( با لحسن ) و هذا دأبه

لما يزيد عن أربعة عقود ، عايشناها على نفس الوتيرة .

كانت أواخر الستينات و بداية السبعينات هي فترة

تتلمذنا بالمدرسة المختلطة ، و كنا نخرج خلسة 

أثناء الاستراحة إلى الحقل التابع لتعاونية مدرستنا بجوار حقل ( با لحسن ) و الذي كان حارس المدرسة يزرع فيه بعض أنواع الخضر خصوصا الجزر و اللفت ، فكنا نقتلع منهما جزرتين أو ثلاث و نقوم بغسلها في الساقية التي يتدفق ماؤها على جانب الحقل ، و نتناولها بشراهة و نهم شديدين دون أن يرانا حارس المدرسة أو أحد الأساتذة فنعرض أنفسنا للعقاب الأليم .

فإذا لم نجد شيئا في حقل المدرسة ، أخذنا من حقل ( با لحسن ) ما تعودنا على أخذه و نلود

بالفرار عائدين عبر الثقب الموجود أسفل سور

المدرسة ، و هذا ما كان يقلق ( با لحسن ) و يملأ صدره غيضا ، حتى أنه رغم انطوائه على نفسه 

و عدم احتكاكه بالناس إلا أنه يضطر في أحيان كثيرة أن يشكونا للأساتذة الذين يأخذون بخاطره

و يطمئنونه و يعدونه بعدم تكرار مثل هذه السلوكات ، فينقلبون نحونا يذيقوننا من العقاب

الأليم أنواعا .

و لكن ما أن تمر أيام قلائل حتى نعيد الكرة ، قد

تسلم الجرة إذا لم  يرنا أحد و قد نتعرض للعقاب

بفعل وشاية التلاميذ .

كبرنا و أصبحنا رجالا ، و تفرقت بنا سبل العيش في دروب الحياة ، و ما زال ( با لحسن ) رغم تقدمه في السن على نفس النهج ، يسقي الأرض 

عرقا و تشبعه حبا و خضرا  ، و لم يفارقه عنها إلا الأجل المحتوم ، فرحمة الله عليه ، كان مثالا

للفلاح المحترف ، و ما زالت ذكراه عالقة بأذهاننا

نستعرضها كلما مررنا بجانب الحقل الذي تغير منه

الكثير بعد وفاته .

صديقي

                     🌲   صديقي  🌲


         اسمه محمد ، و نحن نناديه ( صدوق ) تحببا ، هو أحد الأصدقاء الخمسة الذين جمعني بهم الجوار في نفس الحي ببلدتنا الصغيرة ، 

و شاءت الأقدار أن أودعت فينا ألفة و محبة منذ تلك السن المبكرة ، نلعب سويا ، و نمارس هواياتنا المفضلة كالسباحة و كرة القدم و لعب الورق ( الكارطة ) ، و تعلم العزف على الآلات الموسيقية ، فكان كل واحد يعزف على آلته المفضلة ، إلا أنا كنت لا أجيد العزف على أي منها ، رغم ولعي بالموسيقى .

هذه المحبة لازمتنا في كل مراحل العمر و ما زالت

مستمرة إلى حدود كتابة هذه الكلمات ، و ستدوم

ما شاء الله لها أن تدوم حتى يوارينا الثرى ،

و نحمد الله أن جعلها لمة حلال لا يشوبها حرام من قريب أو بعيد ، بدأت بريئة و بقيت كذلك .

من حق القارئ أن يتساءل ، لماذا استثنيت محمدا

عن بقية الخلان رغم أنهم كلهم على نفس الميزات

و لهم من الحسنات ما لا تجده في باقي شباب

البلدة ؟ .

الجواب بسيط و بكل موضوعية ، أن ( صدوق )

يفوقنا جميعا في خصلة واحدة وهي أنه السباق

في التطوع و مد يد العون في الأفراح كما في

الأتراح ، و لا أحد ينكر ذلك ، بمجرد ما يعلم بالحدث حتى تجده بجانبك مواسيا و مساعدا ، 

لا يبخل علينا بشيء من حيلته و قوته متى كنا

في حاجة إليها ، و لعل هذه الميزة جعلتنا ننتدبه

لكثير من المهام ، فهو من يتولى إعداد الولائم كلما

أجمع الخلان على إحياء ليالي الطرب التي كنا

نعقدها من حين لآخر بمنزل أحدنا ، و نظرا لحسن

تصرف مجموعتنا هذه ، فقد انضم إليها بعض شباب البلدة ممن لمسنا فيهم السلوك القويم ،

و أصبح العدد يقارب إثنا عشر فردا ممن تستهويهم الموسيقى و الطرب ، فالكل يعشق قصائد الملحون و بعض الأغاني الخالدة ، فكانت هذه اللقاءات البريئة تسعد الجميع ، إذ تكسر لديهم رتابة الحياة و مشاغلها ، فكانت بالنسبة لهم محطات يروحون بها عن أنفسهم و يتزودون من خلالها بطاقة الصبر و العزم لمواجهة الصعاب .

كان ( صدوق ) بارعا في الطبخ بشهادة الجميع ،

و كان أكثر براعة في العزف على الدربوكة .

أطال الله في عمره و بقية الإخوة ولا حرمنا من جلساتهم الشيقة ، و زادهم تماسكا و محبة .



                  ✏  أخوك  زايد وهنا   ✏

لا تستنقص من شأنهم

 ⛏   لا تستنقص من شأنهم   ⛏


          أعمال في ظاهرها بسيطة و لكن في عمقها شريفة 

و فاضلة ، أصحابها مغمورون لا ينتبه إليهم أحد و لا تعطى لأعمالهم قيمة ، بل هناك ضعاف العقول ممن يزدرونها 

و يعتبرونها خاصة بأولئك الفقراء البسطاء ، الذين سدت في وجوههم أبواب أعمال أخرى ، و لكن العكس هو الصحيح فهذه الأعمال التي تظنها بسيطة لها دور كبير في حياتنا

و لا يزاولها إلا الصابرون المتواضعون ، و نذكر على سبيل المثال لا الحصر :

غسال الموتى - حفار القبور - عامل النظافة -الحارس الليلي -  و .....

حقيقة الأمر لو تجرد الناس من أنانيتهم و تمعنوا قليلا في هذه الأعمال و أصحابها لاتضح لهم عكس ما يعتقدون ، فمثل هذه الأعمال لا يقوم بها إلا الشرفاء الذين يكسبون قوتهم اليومي من عرق جباههم و ينالون من ورائها ثوابا عظيما .

تخيل لو أن أحد أقاربك وافاه الأجل و لم تجد من يقوم بتغسيله ، أو من يتولى حفر قبره ، كيف ستتصرف في موقف كهذا ، علما بأنك أنت نفسك عاجز عن فعلها و غير ملم بقواعدها و لم تعود نفسك على فعلها إذ منعك جهلك 

و تكبرك ، حينها ستنزل من برجك العاجي و تعترف رغما عن أنفك بقيمة هؤلاء و أهمية أعمالهم .

 تصور منظر الشوارع بمدينتك و هي تعج بالأزبال 

و القاذورات التي تنبعث منها الروائح الكريهة و تضج بكل أنواع الفيروسات الفتاكة ، لعلك حينها تدرك دور عامل النظافة الذي كنت فيما قبل تنظر إليه نظرة دونية .

 كيف سيكون موقفك إذا وجدت زجاج سيارتك مهشم 

و أجهزتها مخربة ، طبعا ستنتابك هيستريا الغضب والسخط ، ألا ترى أن الحارس الليلي جنبك هذا الموقف إذ قضى ليله يقظا لكي تنام أنت مطمئنا على بيتك و سيارتك .

           أعرفت الآن قيمة هذه الأعمال و تضحيات أصحابها ، إذن أعد النظر في تصورك هذا و عوض نظرة الاحتقار 

و النقص بنظرة الإعجاب و التقدير و لا تساومهم على ذلك المبلغ الزهيد الذي تؤديه مقابل خدماتهم  بل أجزل لهم العطاء متى أسدوك خدمة لتبعث في نفوسهم الحماس في مواصلة تضحياتهم و حتى لا تنقطع مثل هذه الأعمال ما دمت لا تستطيع القيام بها و أنت في أمس الحاجة إليها لأنها من ضروريات الحياة و لا غنى لك عنها و عن مزاوليها إن لم يكن اليوم فغدا .


                           ✏  بقلم  زايد  وهنا   ✏

عاتب نفسك

                        🔍  عاتب نفسك 🔍


            قال السلف في مضرب الأمثال الشعبية :

  " للي  ضربتو   يدو  ما  يبكي "

بمعنى : من صفع وجهه بيده لا يمكنه أن يبكي ، فهو من فعل ذلك بنفسه .

فلو تلقى الصفعة من غريب لحق له البكاء ، و لكن

أن يصفع وجهه بيده و يبكي فهذا غير منطقي و لا يقبله عقل سليم .

و لكن للأسف هناك الكثير من الناس في أيامنا

هذه و في ظروفنا هذه يبكون من ألم الصفعة

علما أنهم هم من صفعوا وجوههم بأيديهم 

و برضاهم ولا أحد أجبرهم على ذلك ، لا لشيء

و إنما لأنهم تلقوا مقابل ذلك وعدا كاذبا أو مبلغا زهيدا لا يسمن و لا يغني من جوع .

و الغريب و الأدهى أنهم صفعوا وجوههم بأيديهم

مرات عديدة قبل هذه و لم يتعظوا ، غير أن هذه الصفعة الأخيرة كانت أشد قوة و ألما من سابقتها ، فهل يا ترى سيمسكون عليهم أيديهم حتى لا يؤدوا أنفسهم ، أم أنهم اعتادوا على ألم  الصفع ، فإن كان كذلك فلا داعي للبكاء ، فهم من وضعوا أنفسهم في هذا الموقف البئيس ، فلا يحق لهم أن 

يتدمروا من الفساد و الفقر و الغلاء ما داموا قد أخذوا المبالغ الزهيدة و الوعود الكاذبة .

و في هذا السياق قال السلف تتمة لما سبق :

 " للي  دارها  بيديه  يفكها  بسنيه "

و قالوا أيضا :

 " البكاء   وراء  الميت  خسارة " .


المسكين

                  ◾   المسكين  ◾


           مات المسكين و ماتت معه أحلام و آمال كثيرة كان يمني النفس بأن تتحقق على يد فلذات أكباده حين يكبرون ، كان يرى فيهم المنقذ الوحيد من الفقر و المعين له في شيخوخته التي بدأت بوادرها تغزو بدنه و قد سرع في ظهورها داء السكري الذي أصيب به منذ مدة .

اشتغل المسكين حارسا للمتاجر بالبلدة ، يحرسها

ليلا ، و كان أكثر يقظة بعد العاشرة ليلا حينما تغلق جل المتاجر ، و تخلو الشوارع إلا من بعض

المارة مخافة أن يقتحم لص غادر أحد الدكاكين .

يحمل في يده هراوة و هو يتفقد أبوابها تحسبا أن

ينسى أحد التجار الباب موربا دون إقفال محكم .

نعم مات المسكين و لم يبق في نفسي إلا أثر من

تلك الدعابة التي طالما كنا نتمازح بها عند كل لقاء

فهو رغم قلة حيلته و ضعف حالته كان رجلا بشوشا ، يخلق لنفسه ما ينسيها صغائر الدنيا

و نقائصها ، فيميل إلى الفكاهة و المزاح مع أهالي

البلدة و قد يجعلها وسيلة لاستمالة القلوب إليه ،

علها تنظر إليه نظرة المشفق على حاله ، فيناله

شيء من الهبات دون أن يلجأ للاستجداء من 

أحدهم حفاظا على ماء وجهه .

كان رحمه الله يثق في ثقة كبيرة ، فيبثني شكواه و يطلعني على أسراره و يستشيرني في أمور حياته و أسرته ، إذ كان حلمه الوحيد و مبتغاه الذي يعلق عليه كل آماله أن يبلغ أبناؤه مبلغ

الراشدين عساهم يريحونه من الأعباء التي تحملها

قبل زواجه و بعده ، و عندها سيتفرغ إلى علاج بدنه الذي أنهكته ظروف العمل الشاقة التي تقلب

فيها و هو يصارع الحياة من أجلهم .

أراد من أبنائه أن يريحوه و لكن سبقهم الموت 

فأراحه من تعب الدنيا .

مات المسكين دون أن يظفر بشيء مما كان يأمله ،

حزنت لموته حزنا شديدا و بقيت ذكراه عالقة 

بذاكرتي ، أفرغت بعضها في هذه السطور القليلة

و لو أطلقت لها العنان لصالت و جالت في مضمار

حياته التي غلبت تعاستها سعادتها .

ترحمت عليه و على والداي و أموات المسلمين

تلوت قوله تعالى " كل نفس ذائقة الموت "

ثم طويت الورقة و خلدت للنوم ، عفوا للسهاد .


        ✏ من الذكرى ما يحزن    زايد وهنا  ✏

هدايا الأموات

                 ◾ هدايا الأموات ◾


           في طريقه  إلى بيته ، بعد غياب طال لمدة عام في المهجر ، ارتسمت على محياه علامات الفرح ، و كل شوط تقطعه الحافلة يزداد شوقه

و حنينه لملاقاة زوجته و معانقة أبنائه الثلاث .

 ها هو الآن في وطنه يجلس في المقعد الأمامي خلف السائق ينظر بعينين جاحظتين إلى الطريق

أمامه وقد أنارته مصابيح الحافلة .

يرفع بصره من حين لآخر إلى حقيبته الصغيرة المركونة في الرف العلوي للحافلة ، فهي تحوي   ما يسر أبناءه من الهدايا  ، لم يرد أن يتصل بهم عبر هاتفه المحمول ليخبرهم بمجيئه لأنه يعرف أنهم لن يناموا الليل من شدة فرحهم و أنهم سيقضونه  ساهرين حتى الفجر ينتظرون موعد وصوله ، كما فضل في اعتقاده هو أن يجعل دخوله عليهم مفاجأة تزيد من بهجتهم ، لذلك كان بين الفينة و الأخرى يرسل نظرة خاطفة على عداد  الحافلة التي تقله ، و كم تمنى لو  يزيد السائق في السرعة ليوصله إلى بلدته التي ما زالت تفصله عنها مسافة طويلة قد تصل إلى خمس ساعات ، أتعبه طول السفر فكان يغفو قليلا و يصحو كثيرا ، لأن فرحته بلقاء أهله تنسيه التعب و تحرمه النوم .

شغل هاتفه فإذا الساعة تشير إلى منتصف الليل ،

غالبه النعاس فاستسلم للنوم و فجأة استيقظ مذعورا على صراخ السائق و الركاب ، لقد فقد

السائق السيطرة على الحافلة التي أخذت تتأرجح

يمينا و يسارا ، حاول السائق بما أوتي من قوة

أن يوقفها و بعد جهد جهيد تم له ذلك ، و لكنها ما زالت تتأرجح و هي رابضة في مكانها ، نزل كل من كان على متنها و هم يشعرون بدوار و بشيء غريب يحرك الأرض تحت أقدامهم فيوشك أن يلقي بهم أرضا ، ثم فجأة هدأ كل شيء ، نظر إلى ساعة معصمه فإذا هي الرابعة صباحا و أيقن أنه لم يعد يفصله عن بلدته إلا بضع كيلومترات .

انطلقت الحافلة من جديد تواصل سيرها ، و لكن

سرعان ما توقف السائق ، فالطريق لم تعد صالحة

للسير إذ انشق إسفلتها و أصبحت فيه أخاديد

عميقة لا تسمح بالمرور ، حينها علم الجميع  أن ما حدث هو زلزال عنيف .

اعترى صاحبنا خوف شديد على أفراد أسرته ، لأنه يعلم يقينا أن هذا الزلزال العنيف قد يدمر البلدة عن آخرها و كيف لا و هو على مشارفها إذ لم تعد   تفصله عنها إلا مسافة قليلة ،  مما أجج في نفسه الشعور بالهلع ، ترجل من الحافلة و أخذ متاعه على كتفه و انطلق مسرعا يطوي الكيلومترات المتبقية سيرا على الأقدام و الهواجس تتلاحقه

و ما هي إلا ساعتين حتى أشرف على بلدته ،

و قد هاله ما رأى ، غبار كثيف يعلو سماء البلدة ، حجب عنها أشعة الشمس عند شروقها ، فعلم أن الزلزال فعل فعله بأهلها ، وهذا ما زاد من مخاوفه ،  

و لكنه تابع السير يهرول تارة و يعدو أخرى ، يحدوه الأمل في لقاء زوجته و أبنائه و هم سالمون .

المنازل محطمة عن آخرها و الناس في هرج 

و مرج ، صراخ و بكاء هنا و هناك ، هذا يبكي

والديه و الآخر يبكي إخوته و ذاك يبكي أبناءه ،

و الكثير منهم في حيرة من أمره لا يعرف مصير أهله ، هذه المشاهد بعثت الرعب في نفسه ، فإذا الأمل الذي كان يراوده بدأ يتضاءل و يتلاشى أمام هذه الفاجعة المروعة و رغم ذلك أخذ يشق الدروب نحو منزله ، و ما أن وصل حتى ألقى ما على كتفه أرضا و سقط مغشيا عليه من هول ما رأى ، فقد دك المنزل التي تسكنه أسرته بالأرض دكا و صار ركاما بعضه فوق بعض .

حمله بعض الرجال على عجل و جروا به ظنا منهم أنه ميت ، و لكنه بفعل الرجة التي أحدثوها عاد إليه وعيه و فتح عينيه و انهمرت منهما دموع غزيرة ، حينها أنزلوه أرضا و تركوه لشأنه ما دام حيا و ليس به أدى .

جاء فريق الإنقاد على وجه السرعة بمعداتهم

الخفيفة و الثقيلة ، يزيلون الركام أملا في العثور على أحياء بين الأنقاض ، و كان صاحبنا يساعدهم

عساه يجد أهله أو أحد منهم على قيد الحياة

و لكن مشيئة الله قضت أن يخرجوهم من تحت الأنقاض أمواتا .

نعم لقد التقاهم و لكن العناق كان من طرف واحد

فقد ارتمى عليهم يضمهم إليه ، و ينفض عن وجوههم الغبار و يعانقهم واحدا واحدا  ، و كأنه ينتظر منهم أن يبادلوه العناق ، في تلك اللحظة

جرى إلى حيث ترك الهدايا ، أتى بها و أخذ يعطي كل واحد منهم هديته و يضعها على صدره ،

و لكن هيهات فقد سبقته إليهم يد المنون 

و اختطفت منهم فرحهم بأبيهم و هداياه .

جلس ينظر إليهم جثثا هامدة و يبكي بكاءا مريرا في الوقت الذي كان فيه رجال الوقاية يحملونهم

إلى حيث يجمعون الموتى .

تحركت في دواخله بواعث الإنسانية ، فقام يساعد

المنقذين في البحث عن المطمورين تحت الحطام

 أحياءا كانوا أو أمواتا ، سواء في حيه أو في أحياء أخرى من البلدة  لمدة ثلاثة أيام لم يذق خلالها طعم النوم و لا طعم الأكل حتى خارت قواه و أشرف على الهلاك ، أخذ معه ثلاثة  أغطية مما وجده تحت الركام و انزوى بنفسه مكانا بعيدا بالقرب من مقبرة ، صنع بواحد من الأغطية خيمة صغيرة و افترش الثاني  و جعل الثالث غطاءا  

و راح في سبات  عميق لم يفق منه إلى الأبد .



                           ✏  بقلم  زايد وهنا   ✏


صناعة الرجال

                 💪   صناعة الرجال 💪


           جرت العادة كلما اقترب عيد الأضحى أن أقتني الأضحية عند أحد الفلاحين بإحدى القرى 

الصغيرة التي تبعد عن البلدة --التي أسكنها منذ انتقلت إليها قبل ست سنوات -- بحوالي عشرين

كيلومترا عبر طريق غير معبدة ، مسالكها وعرة ،

لا يسلكها أهاليها إلا على ظهور البغال و الحمير 

يقطعون هذه المسافة كلما دعت الضرورة للتسوق من البلدة المجاورة ، و نظرا لوعورة مسالكها كنت

أزورها مرة واحدة في السنة لاختيار الأضحية التي أرغب فيها ، أتحمل أعباء التنقل طلبا للجودة،

فصاحبنا هذا يعتمد على ما تنبته الأرض من كلإ

كعلف لماشيته مما يكسبها سمنة و لذة طبيعيتين .

و في إحدى الزيارات أعجبت بطبيعة القرية 

و مناظرها الجبلية الخلابة ، فجلست على حافة 

جدول ماء ، أستمتع بخرير المياه ، و استرعى انتباهي مجموعة من أطفال القرية جالسين بالقرب من الجدول و هم يخلطون نوعين من التراب الأحمر و الأصفر بالماء إلى أن يصير طينا

لزجا ، و يصنعون منه مجسمات لحيوانات مختلفة ، شدني فضولي إليهم و أخذت أتتبعهم 

و هم في غمرة النشوة بما يصنعون ، و كلما رفع

أحدهم بصره نحوي ابتسمت له ابتسامة إعجاب

و تشجيع ، فاحتدت روح المنافسة بينهم و صار

كل منهم يريني منتوجه المصنوع من الطين ،

هذا خروف و هذا حمار و هذه بقرة و هذه دجاجة

فكنت أقدر و أجل ما صنعه كل واحد منهم بنفس

الميزة دون استثناء .

في هذه اللحظة تبادر إلى ذهني السؤال الذي طالما كان يراودني ، فقلت في نفسي :

أيهم أكثر ذكاء و سعادة ، أطفال المدن أم أطفال

القرى ؟

و من غير تكلف و لا عناء تفكير ، جاء الجواب

فورا كأنه يفرض نفسه ، طبعا أطفال القرى .

فهؤلاء يستعملون ذكاءهم فيصنعون لأنفسهم لعبا

يتلهون بها ، بما ملكت أيديهم من مواد أولية بسيطة مما توفره بيئتهم ، يستغلون الطين 

و القصب و الأعواد و الأسلاك و غيرها في صناعة أشياء عجيبة كالفخاخ لصيد الطيور و السيارات مستعملين الأسلاك و العلب الفارغة و غير هذا

كثير ، و هذا يكسبهم مهارات و مواهب  و ينمي لديهم الذكاء ، و يبعث في أنفسهم سعادة غامرة كما أنهم يساعدون الكبار في مهام أخرى بما تسمح به طاقتهم البدنية ، و هذا يربي فيهم روح الصبر و التعاون ، و الاعتماد على النفس و بذلك يدركون

في سن مبكرة  مطالب الحياة و مصاعبها . 

على عكس أطفال المدن الذين يشترون كل شيء جاهز من الأسواق و المتاجر دون أن تكون لهم

فيه لمسة يبينون فيها عن مواهبهم و قدراتهم

مما يجعلهم لا يبذلون جهدا في الحصول على 

ما يريدون ، فهم دائما يعتمدون على أوليائهم في

كل شيء حتى لو كان بسيطا ، و هذا ما أفقدهم

الثقة بأنفسهم ، و جعلهم مدللين ، حريتهم مقيدة بقيود الخوف فلا يستطيعون الخروج لوحدهم ، 

و لا يكلفهم أولياؤهم القيام بمهام و لو كان في

مقدورهم القيام بها  ، و هذا كله ينعكس على شخصياتهم و يحد من مهاراتهم في الحياة .

و الحقيقة أني خبرت بنفسي هذا الأمر ، فاشتغالي

كمدرس لمدة تربو على الأربعين سنة ، لاحظت

من خلال هذه التجربة الطويلة أن نسبة الذكاء

و الاجتهاد لدى أطفال القرية تفوق كثيرا مثيلتها

لدى أطفال المدن ، و لولا الهدر المدرسي الذي

يتعرض له أطفال القرية بفعل البعد عن الحواضر

و الفقر أحيانا مما يمنعهم من متابعة دراستهم لحققوا ما لم يحققه أمثالهم من أبناء المدن 

و لكانوا من نخبة المجتمع ، و هو ما نراه عند القلة القليلة منهم ممن أسعفتهم الظروف و تابعوا دراستهم فهم الآن في مراتب عليا من الوظائف الحساسة في المجتمع .

هكذا سرحت بي الأفكار في ذلك المكان الجميل 

و لكن صراخ الأطفال و هم يودعونني أخرجني

من دوامة التفكير ، نظرت إلى الساعة و قد 

اقترب موعد صلاة الظهر ، فإذا بصاحبي الفلاح

يقف بجانبي و يدعوني لوجبة الغذاء ، و يلح

في ضيافتي إلحاحا غريبا لم أجد معه مبررا ،

و لحد كتابة هذه السطور ما زلت أذكر لذة تلك

الوجبة و طعمها الفريد ، و كأني بها عالقة بلساني

و ها أنا أنتظر بشغف اقتراب موعد العيد لأزوره

في قريته من أجل اقتناء الأضحية و الاستمتاع 

بوجبة لذيذة كالعادة .

        

            ✏ هكذا يرى الأمور :  زايد وهنا  ✏

سارة و الخبز

                         🍞  سارة و الخبز 🍞


          إلى وقت ليس بالبعيد جدا كانت الطوائف

اليهودية تقطن في عدد كبير من حواضر المغرب 

و بواديه ، يجتمعون في أحياء خاصة بهم تدعى

الملاح ، حيث يمتهنون حرفا متنوعة يغلب عليها

طابع التجارة و حرفتي الخياطة و العطارة ، 

و هي نفسها الحرف المتداولة في الأوساط اليهودية أينما حللت و ارتحلت بالمغرب ، و بلدتي  الواقعة في الجنوب الشرقي هي بدورها لم تخرج عن هذا السياق  فقد استوطنتها مجموعة من اليهود منذ عهود خلت و أقاموا بمركز البلدة 

و تعاطوا للتجارة و بعض الحرف التقليدية ، 

و اندمجوا مع الساكنة التي اعتادت التعامل معهم ، غير أن الأهالي ينفرون من اليهود إذ يعتبرونهم كفارا لهذا كانوا ينظرون إليهم نظرة احتقار حتى أصبح ذكر اسم اليهودي مقرونا بالكلمة العامية المتداولة في أوساط المسلمين " حاشاكم " و هي الكلمة التي شاع استعمالها متى ذكر الشيء القبيح الدنيء .

ازدهرت التجارة و بعض الحرف التقليدية التي يزاولها اليهود خاصة إبان فترة الحماية ، و لكن بعد الاستقلال بدأوا يغادرون البلدة تدريجيا حتى لم تبق منهم إلا قلة قليلة ، عاصرناها في طفولتنا .

و هنا أذكر و أنا طفل في أواسط الستينات

و أواخرها ما تعج به حركة اليهود بمركز البلدة ،

فقد كان لهم معبد خاص يقيمون فيه طقوسهم 

التعبدية ، كما أن أبناءهم كانوا يرتادون المدرسة مع أبناء المسلمين ، إلا أنهم لا يحضرون دروس التربية الإسلامية ، التي كانت تلقن بعد استراحة الحصة الزوالية .

هذا و قد لاحظ جميع سكان البلدة أن اليهود

يعشقون بعض المنتوجات المحلية التي تجود بها القرى المجاورة  و يفضلونها عما سواها ، فيقبلون على شرائها من الفلاحين الذين يعرضونها في سوق البلدة ، هؤلاء الفلاحون الذين يعرفون نوع

المنتوجات التي يرغب فيها اليهود كالبيض 

و الفجل و الجزر و الوركية ( warguiya ) و الكمأ أي ( الترفاس ) بلهجة أهل البلد ، و هو المنتوج الأكثر طلبا في إبانه من قبل اليهود يشترونه بكميات كبيرة و بأي ثمن كان .

في تلك الفترة كان لوالدي رحمه الله متجر لبيع

الأثواب في مركز البلدة ، و قد صادف أن كان 

بجوار متجره ورشة خياطة ليهودي يدعى

  " يحيى  بيخزر " هذه الورشة التي كانت ملتصقة

ببيت اليهودي حيث زوجته " رحمة " و ابنتهما 

 " سارة " التي كانت في مثل عمري ،

و ما دام يفصلني عام  أو عامين عن سن التمدرس الذي كان آنذاك لا يقبل إلا من استوفى سبع سنوات ، فقد كنت أقضي جل أوقاتي في متجر والدي ، و هناك تعرفت على سارة و كنا نلعب سويا أمام متجري والدينا .

في أحد الأيام و بينما نحن نتلهى ، نادت علينا

أم سارة ، و ناولت كلا منا قطعة خبز ، أمسكت

قطعة الخبز بيدي و طفقت أتفحصها لأنها تختلف

عما ألفته من خبز أمي رحمة الله عليها ، فخبز اليهود أكثر بياضا و أكبر سمكا ، قد يتبادر إلى ذهنك للوهلة الأولى أنه قطعة حلوى و ليس خبزا،

تناولته حافيا بنهم شديد و أعجبني طعمه .

لاحظ والدي ذلك و عند عودتنا إلى المنزل زجرني

و نصحني بألا أتناول طعام اليهود مهما كان 

و تحت أي ظرف ، وعدته ألا أكررها ثانية ، و لكن

لا أخفيكم سرا أنني كنت من حين لآخر أتناول منه

قطعة صغيرة متى سلمتني إياها سارة ، و ليتها كانت قطعة كبيرة ، إذ لا أستطيع كبح جماح شهيتي لأنه طعمه لذيذ لا يمكن لطفل في مثل سني أن يقاوم رغبته ، و لكنني أعمل المستحيل حتى لا يكتشف أبي أمري فأتعرض لعقابه و ما أدراك ما عقابه .

كانت هذه بعض ذكريات الطفولة التي بقيت عالقة

بذاكرتي ، و نحن نكبر في السن و وجود اليهود مستمر بالبلدة لكنه في تناقص ملحوظ حتى 

أواسط السبعينات حيث غادر آخر يهودي البلدة

و كان اسمه ( إسحاق ) ، و بذلك انتهى وجودهم

بعد أن عمروا زمنا طويلا قبل و أثناء و بعد

الاستعمار ، و هذا حال الدنيا و تقلباتها ، لا يدوم

لأهلها حال .


           ✏  من ذكريات طفولة زايد وهنا  ✏

ابن ابراهيم

                         🌷 ابن إبراهيم 🌷


        رجل على مشارف الستين من عمره ، اسمه أحمد و لكن الجميع ينادونه بحميد تحببا ، رجل ذو قامة معتدلة و مظهر أنيق و شخصية مهابة ، يفرض عليك احترامه لا لشيء و إنما لحسن خلقه 

و جميل تصرفه و حلو حديثه .

لم تكن تربطني به فيما مضى أي علاقة سوى علاقة تبادل التحايا من بعيد ، شأنه في ذلك شأن أبناء بلدتي الذين تكون معرفتي بهم معرفة سطحية ، خصوصا و أن هذا الشخص كان و لفترة طويلة جنديا مرابطا في تخوم الصحراء المغربية  

فلا يزور البلدة إلا على فترات متباعدة ، لذلك

ظلت علاقتي به لا تتعدى ذلك اللقاء العابر ،

و لكن ما لبث أن انتقل إلى بلدتنا حيث أكمل

مشواره في الجندية حتى أحيل على المعاش .

في هذه المدة التي قضاها بين ظهرانينا تعرفت

عليه عن قرب ، و لمست في الرجل ما كنت أجهله

عنه ، لقد حباه الله أخلاقا فاضلة و سلوكا قويما

و تصرفا لبقا جعلت له محبة و قبولا عند الناس ، و لعل هذه الأوصاف التي يندر وجودها في بعض

الناس هي التي قربتني إليه و قربته مني ، و كأن

القلوب تلاءمت مع بعضها ، فأصبحت أرغب في

مجالسته و إثارة العديد من المواضيع معه ، إذ

وجدت فيه الشخص المتزن الذي صقلت التجارب

وعيه ، متفهما لأمور الحياة و مصاعبها ، له اطلاع

غير يسير في مجال العلم و الآداب ، متذوقا للفنون الجميلة ، لا تشعر و أنت في صحبته إلا

بما يثير إعجابك و ينال رضاك ، لا يبخل عليك

بشيء من قوته و حيلته ، و الأهم من كل هذا

و باختصار شديد رجل شهم صافي السريرة لا

يحمل حقدا و لا كراهية لأحد ، يحب الجميع

و الجميع يحبه .

فاللهم احفظه لنفسه و لأسرته و لبلدته ، و زده

طيبوبة على طيبوبته ، إنك ولي ذلك و القادر عليه .


            ✏  محبك في الله : زايد وهنا ✏

عبد الرحمن

 ⚘    عبد الرحمن   ⚘


            عبد الرحمن الطالبي أحد رجالات قريتي ، تقاعد منذ ما يزيد عن عقد من الزمان ، بعد مسيرة طويلة في تدريس اللغة الانجليزية بثانوية سجلماسة بالرشيدية .

رغم ولعه بهذه اللغة إلا أنه لم يفرط يوما في لغة الضاد ، فقد كان شديد التعلق بكتاب الله ، و كيف لا يفعل و هو ابن الفقيه الذي كان إماما بمسجد القرية ، فلا غرو أن يرث عنه الكثير من الفضائل و لعل أسمى خصلة ورثها عن أبيه رحمه الله هي الصبر ، كان والده رجلا مشهودا له بدماثة خلقه

و حسن سلوكه ، حكيما في قوله ، صادقا في فعله ، و هي الصفات التي قلما تجمع في شخص إلا إذا كان من الصالحين المصلحين ، و هذا ما جعل والدي رحمة الله عليه يتقرب من الفقيه و يتعلق به ، فقد تأثر به صغيرا عندما تتلمذ على يده في الكتاب ، و نظرا لما تركته سيرة الفقيه في نفس والدي من الأثر ، لازمه و دامت الصحبة بينهما لعقود طويلة رغم فارق السن ، و هكذا دأب على زيارته صلة للصداقة و رغبة في مدارسة بعض الأمور الدينية ،و أذكر و أنا طفل صغير أن أبي كان يأخذني إلى بيت الفقيه في مناسبات مختلفة خصوصا يوم ذكرى المولد النبوي حيث كان أهل القرية ينشدون أشعارا في مدح خير البرية صلى الله عليه و سلم .

و لكن شاءت حكمة الله أن يغادرنا الفقيه إلى دار البقاء ، و لا أخفيكم سرا أن والدي تألم كثيرا لفراقه ، و حزن عليه حزنه على والده هو ، و لكنه بقي على عهده السابق ، فلم يقطع

الصلة بأهل بيته بل كان يزورهم من حين لآخر ، و هكذا استمرت العلاقة في تماسكها و انتقلت إلينا نحن الأبناء 

و ازدادت توطيدا . كان احتكاكي الفعلي بعبد الرحمن بعدما بلغت من النضج مبلغ الراشدين يوم زواجه بسيدة فاضلة

لا تقل عنه صبرا و كرما و قبولا ، عندها تم تعيينه كأستاذ بثانوية سجلماسة في أواخر السبعينات حيث كنت أنا طالبا بنفس الثانوية ، و لم نكن نفترق إلا قليلا ، إذ كان نعم الصديق و الأخ الأكبر و الأستاذ المعين و المضيف الكريم ، 

و لعل معاشرته كان لها أكبر الأثر في إتقاني للغة الانجليزية دون أن أنسى دور أستاذي المحنك مولاي ادريس الرحماني ، فإليهما يرجع كل الفضل فيما تحقق لي من مهارة في هذه اللغة الأجنبية .

كنت حقا طالبا بالداخلية التابعة للثانوية ، وكنت كلما التقيت عبد الرحمن يدعوني لزيارته في بيته خصوصا في عطلة نهاية الأسبوع ، فكنت بين الحين و الآخر أزوره ببيته و كثيرا ما أجد عنده ضيوفا من أهل البلد ساقتهم إليه ظروفهم الصعبة فمنهم من يرتاد الرشيدية قصد التطبيب أو حضور

جلسات بالمحكمة أو قضاء حاجة في إحدى الإدارات التي تفتقر لمثل خدماتها قريتنا المهمشة.

كان عبد الرحمن يزور المرضى الوافدين من القرية و لا يستثني منهم أحدا ، فبمجرد أن يبلغ إلى علمه أن أحدهم طريح الفراش بمستشفى مولاي علي الشريف إلا و يذهب لزيارته و مواساته ، أما في حالة وفاة أحدهم و ما أكثرهم ، فيكون هو أول الحاضرين لتقديم المساعدات اللازمة قدر المستطاع و لا يهنأ له بال حتى يوارى الميت الثرى بقريتنا .

هذا باختصار شديد هو عبد الرحمن الذي استمال قلوب الناس بمواقفه الإنسانية و خفة ظله ، و نحمد الله و لا نحصي ثناء عليه إذ أدام علينا نعمة الصداقة و الصحبة الثابتة التي ورثناها عن والدينا رحمة الله عليهم ، و التي تركناها بدورنا لأبنائنا يتبوؤون في ظلالها و يورثونها لأبنائهم 

إلى ما شاء الله .


                    ✏   أخوك  زايد وهنا    ✏

فن البلدي

 فن البلدي بمنطقة تافيلالت

هذا الفن هو عبارة عن عيوط فيلالية لها طبوع مختلفة من حيث الأداء ، فهناك :

البلدي الجرفي 

الميسوري

الملولي 

المزوكية

و لكل منها طابع خاص ( اللحن ) و كلمات خاصة و أداء خاص و آلات موسيقية خاصة يختلف عن غيره من أنواع العيطة الأخرى ،

 و لكل نوع مناسبته و ظروف إنشاده 

و لعل من أبرز شيوخ العيطة الفيلالية الأوائل :

المرحوم محمد باعوت

المرحوم مولاي علي بلمصباح

المرحوم محمد بلكبير

السيدة عائشة الزكود

و غيرهم ممن توارثوا هذا الفن عن هؤلاء الشيوخ

مواضيع مقترحة :

# البلدي ( طبوع - شيوخ - مناسبات - أداء ...)

 # التنوع الفني بتافيلالت ( الزوايا و دورها -حضارة سجلماسة - انفتاحها على الصحراء الكبرى عبر التجارة - قربها من الجزائر -.....)

# التذوق الفني بين الأمس و اليوم .

# الجرفي

#  الميسوري 

# الملولي 

# المزوكية 

يمكن أن نتناول كل موضوع من هذه في حلقة

خاصة و نحيط بجميع جوانبه .

هذه مجرد اقتراحات و لكم واسع النظر .


بسم الله بدينا و على النبي صلينا

صلوا عليه و زيدو قد نخل و جريدو


بسم الله بديت على النبي صليت

بسم الله بديت في الغيوان جيت


لله يا الايام سيري و عايدي

اسيدي حنين حنين مول المعايدة


الغيوان كان بانا خلانا و مات

الغيوان زريعة في راسي نبات


ما خلاني بخير ما سال علي

ما خلاني نتوب ما تاب علي


لعزارا في البلاد و انت هجاله

فرينا في البلاد و انت جيعانه


الحنة و السواك خربو ديواني

الخرسة و الدلال زادو فهبالي


ما بديشي عليك نمشي و نخليك

ما بيدي ما ندير ما بيدي حيلة


الله يبليك ما بلاني تجرب حالي

سيدي ربي للي بلاني قادر يعفو


عينيك ضربوني و سلكني الله

و عينك بوحبة قتلو لي با


بين سلا و الرباط سيدي بو غابة

بين سلا و الرباط سكرو لخواتات


ما كنغني و غير كنفجي الغيض

و خليني نبكي على للي نبغي


البورجوازية العمياء

              👌  البورجوازية العمياء  👌


        كثيرا ما نسمع أن أحد الأثرياء عربيا كان أو أعجميا قد اشترى لوحة لأحد الرسامين المشهورين بمبالغ مالية تفوق الخيال ، و منهم من

يشتري تحفة فنية تعود صناعتها إلى قرون خلت

بمبلغ كبير من المال ، أو سيارة من النوع القديم جدا بل منهم من جمع أعداد كبيرة من موديلات

السيارات القديمة و الحديثة على السواء ، 

و أنفق من أجل ذلك ثروة هائلة لا تعد و لا تحصى

علما أنه لا يستعملها و إنما يحتفظ بها للزينة

و التفاخر .

و لم يقتصر الأمر على اللوحات و التحف 

و السيارات بل امتد بهم الأمر إلى شراء حذاء

لاعب كرة قدم مشهور أو قميص لاعب كرة سلة

ماهر أو نظارات مغن كبير أو ساعة أحد المشاهير

كل هذه المقتنيات و غيرها مما لا يتسع المقال لذكره بأموال طائلة يعجز الإنسان عن عدها ، 

لا لشيء و إنما ليفتخر و يفاخر بها غيره من أمثاله

الأثرياء أينما وجدوا في العالم .

في الحقيقة أنا شخصيا أستغرب مثل هذه التصرفات و لا أجد لها مبررا مقنعا و لا أثرا في

الحياة الاجتماعية ، و أجزم حسب رأيي الشخصي

أن فاعلها بلغ به الجهل و الغباء أقصى الدركات

إذ لا يعقل أن ينفق شخص سوي هذه المبالغ الطائلة على أشياء تافهة لا تسمن و لا تغني من جوع ، في حين لو استثمرها في مشاريع كبيرة

تعود عليه و على بلده و على الناس بالنفع العميم

لكان أفضل و أجدى نفعا و في الوقت ذاته يكون قد أنقذ عددا كبيرا من شباب بلده و أسرهم من قبضة الفقر ، و لم لا  ينفق ما فضل عليه من أموال في أعمال البر و الإحسان كتجهيز مستشفيات أو مؤسسات تعليمية أو الإنفاق على دور العجزة 

و ملاجئ الأيتام أو غيرها من وجوه الخير و ما أحوج الناس إلى هذه الخدمات في كثير من بلدان العالم ، و لو فعل لأحس حقا بسعادة غامرة لا 

تضاهيها سعادة ، و لكن البورجوازية العمياء طمست بصيرته و جعلته ينفقها في التفاهات ظنا منه أنها ستحقق له السعادة ، فمتى كانت مثل هذه المقتنيات تجلب السعادة لمن أشقاه الثراء حتى صار نقمة عليه عوض أن يكون نعمة ، و الحقيقة شتان بين هؤلاء و بين السعادة ، فهم مهما فعلوا لن يسعدوا أنفسهم لأنهم بعيدون كل البعد عن

أسبابها و شروطها .

     

           ✏ وجهة نظر للنقاش : زايد  وهنا ✏

اشكالية الفهم و التطبيق

                إشكالية الفهم و التطبيق


          إذا كانت لحقوق الإنسان مرامي و غايات

إنسانية نبيلة ناضل من أجلها حقوقيون و وضعوا لها أسسا و قواعد تنبني على إسعاد الإنسان بحيث

ترفع عنه الحيف و تجعل له هامشا كبيرا من الحرية لإبداء رأيه في إطار من الوعي  والمسؤولية ، فيكشف عن مواهبه و يسخر طاقاته الفكرية ليبدع و ينتج دون قيد أو تحفظ في سبيل إسعاد نفسه و غيره ، فإن الفهم السطحي 

و الخاطئ لمفهوم حقوق الإنسان ، و عدم الوعي

بهذه الغايات السامية التي وضعت من أجلها ،

قد حاد بها عن سكتها و أدى لدى كثير من الناس

إلى عكس ما كان منتظرا منها ، فعدم فهمها الفهم

السليم جعل العشوائية هي سيد الموقف ، و بات

الخلط بين الحقوق و الواجبات أمرا معتادا ، بل

أصبح معظم الناس لا يدرون الحدود التي تنتهي 

عندها حرياتهم ، لذلك تجدهم يتمشدقون 

بمفهوم حقوق الإنسان من غير وعي به أو فهم

لأهدافه ، فيتصرفون وفق أهوائهم مما انعكس

سلبا على المجتمع إذ كثر الإجرام و استفحل

الفساد و انحلت الأسر و ضرب بالقيم و الأخلاق

الفاضلة عرض الحائط و حل التسيب و الفوضى

و سادت التفاهة ، و لم يعد أحد يحترم القانون

و ينضبط لضوابطه إذ غابت العقوبات الزجرية

الرادعة بل امتد الأمر إلى التطاول على رجال

السلطة و الأمن و أصبح التلاميذ المشاغبون

يعتدون على الأساتذة و يتوعدونهم بالعنف بل

منهم من عرض حياة الأساتذة للخطر و غير هذا

من التسيب باسم حقوق الإنسان .

فليست الحقوق هي حرية التلفظ  بألفاظ نابية تخدش الحياء على مرآى و مسمع من الناس في الشوارع و الحافلات و في جميع الأماكن العمومية مما يسبب الحرج و التقزز للمارة خصوصا إذا كانوا مصحوبين بأحد أفراد أسرهم .

و ليست الحقوق هي حرية ارتداء ملابس غير محتشمة كما نرى لدى الشبان و الشابات

 و يقصدون مؤسساتهم التعليمية و لا أحد يقف لهم بالمرصاد و يمنعهم من الدخول إلى المؤسسة إذ لديهم كامل الحرية في ارتداء ما تشتهي أنفسهم ما دامت الأسرة قد أقرت بذلك و أضحى عرفا مقبولا لدى الجميع .

إذا كان اللعب حقا من حقوق الأطفال ، فهذا لا يعني أن تمارس لعبة كرة القدم في الشوارع حيث

تمر السيارات و الدراجات ، بل تمارس في الأماكن

المخصصة لها ، فكم من الضحايا أزهقت أرواحهم

لهذا السبب .

و قس على ذلك كثيرا من الأمور التي تمارس باسم الحرية و حقوق الإنسان و هي في الحقيقة

لا تبث إليهما بصلة و لا تنضبط لشروطهما 

و قواعدهما و إنما هي تهور و استهتار و تسيب 

و انحلال ، لأننا نستورد المفاهيم من الغرب 

اللاديني و لا نستورد معها حيثياتها و خصوصياتها

و آليات تنزيلها ، و الأدهى أننا لا نكتفي بما استوردناه بل نغالي فيه و نبالغ لدرجة تفوق 

ميوعته ميوعة من صدروه لنا .

و الصواب أننا نحن المسلمون لو تمسكنا بقيمنا

الاسلامية السامية ما كنا في حاجة إلى تقليد الغرب لأن ديننا الحنيف أعطى لكل فرد حقوقه

سواء كان ذكرا أو أنثى ، كبيرا أو صغيرا ، بل هو

الرحمة المهداة للناس أجمعين ، في ظله نتمتع 

بالدفء الأسري الذي يفتقده الغرب ، و جعل الحياء أرقى شعبة من شعب الإيمان يغلف جميع

تصرفاتنا ، فالغرب يغبطنا على هذه القيم الاسلامية و يحاول تشويهها في حين أن العقلاء

منهم ممن هداهم الله قد اعتنقوا الإسلام لما رأوا

فيه من حقوق و واجبات لا ينتابها حيف و لا ظلم

و إنما هو العدل و المساواة و التعاضد و الرحمة .

ختاما أخوف ما نخافه هو إن امتدت الأيام على هذه الوتيرة ، و لم نتصالح مع ديننا و قيمه 

و نجعله المصباح الذي ينير الظلام ، فلا شك أننا نسير نحو الهاوية بل نحن على مشارفها إذا لم ننجز لأنفسنا أمرا ، و استعجلنا إصلاح ما اعوج ، فقد نقضي على أنفسنا و يذهب ريحنا ، و ليتحمل كل فرد منا المسؤولية فيما فرط فيه ،  من موقعه الخاص و بقدر ما في يده من سلطة  أو قدرة 

أو علم ، فالله نسأل أن يلهمنا إلى الصواب  ولا حول و لا قوة إلا بالله .


                

                  بقلم :   زايد وهنا 

لا تتسرع

                   🔍    لا تتسرع  🔍


      قد يتسرع الإنسان في إصدار الأحكام و اتخاذ مواقف سلبية اتجاه تصرفات الناس و يجزم في نفسه قطعا أن بعض هذه التصرفات غير مرضية 

و بالتالي ينظر إلى فاعلها بعين السخط 

و الاستصغار دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن

أسباب تلك التصرفات التي لم ترقه و من غير أن

يلتمس الأعذار لصاحبها و هو ما حدث مرة 

و عاينته بنفسي .

كان ذلك في غرفة إيداع الملابس بأحد الحمامات

العمومية ، إذ دخل أحدهم الغرفة فوجد بها رجلا

يرتدي ملابسه بعد أن استحم ، بادره الوافد بالتحية قائلا : " السلام عليكم " و لكن الآخر الذي

كان منشغلا بارتداء ملابسه لم يرد عليه التحية ،

فأتبع الذي يهم بنزع ملابسه التحية بالعبارة المتداولة بين الناس و هي " بالصحة و الراحة "

و لكنه لم يتلق حتى عن هذه جوابا ، فاشتد

غيضه و هو يتمتم بكلام غير مفهوم يشي بعدم

الرضى و هو ينظر إلى الرجل نظرة ازدراء 

و احتقار ، و كأن لسان حاله يقول : " لو كنت أعلم خساستك لتجاهلتك و أمسكت علي لساني "

في تلك اللحظة دخلت الغرفة و عند المدخل 

التقيت الرجل الذي أنهى استحمامه يحمل جرابه

على كتفه و هو يهم بالخروج ، حييته بإيماءة من

رأسي و ابتسمت في وجهه ثم دلفت حيث الرجل

الذي يخلع ملابسه تأهبا لدخول الحمام ، حييته هو الآخر ، فرد علي التحية قائلا بنوع من التوتر

و الاستغراب : " أرأيت ذلك الحيوان الذي خرج للتو ، لقد بادرته بالتحية و لم يردها و أردفت

مجاملا إياه بعبارة " بالصحة و الراحة " و لكن

الخسيس لم يرد علي لا هذه و لا تلك .

حينها ابتسمت محاولا تهدئة روعه و قلت له :

" يا أخي أظنك لا تعرف الرجل الذي نعتته بالحيوان فهو لم يرد عليك التحية لأن المسكين

أصم أبكم ، فلا تسيء الظن به ، فإعاقته هي السبب و ليس سلوكه ، فهو من خيرة أهل هذه

البلدة و أطيبهم خلقا ، ما سبق أن علمنا عنه سوء" 

طأطأ الرجل رأسه و قد بدت على ملامحه علامات

امتزج فيها التعجب بالندم على ما صدر منه من

سوء الظن .

لقد كان لهذا الحدث وقع في نفسي ، و زدت يقينا

أن التسرع في إصدار الأحكام على تصرفات الناس قد يسقط صاحبه في مهالك الإثم و يثير الشحناء 

و البغضاء بين الناس من غير داع لها ، فلو تريث

الناس و التمس بعضهم لبعض العذر في كثير من

المواقف لكان خيرا لهم . 


            ✏  مشهد عاينه  زايد وهنا  ✏