🍞 سارة و الخبز 🍞
إلى وقت ليس بالبعيد جدا كانت الطوائف
اليهودية تقطن في عدد كبير من حواضر المغرب
و بواديه ، يجتمعون في أحياء خاصة بهم تدعى
الملاح ، حيث يمتهنون حرفا متنوعة يغلب عليها
طابع التجارة و حرفتي الخياطة و العطارة ،
و هي نفسها الحرف المتداولة في الأوساط اليهودية أينما حللت و ارتحلت بالمغرب ، و بلدتي الواقعة في الجنوب الشرقي هي بدورها لم تخرج عن هذا السياق فقد استوطنتها مجموعة من اليهود منذ عهود خلت و أقاموا بمركز البلدة
و تعاطوا للتجارة و بعض الحرف التقليدية ،
و اندمجوا مع الساكنة التي اعتادت التعامل معهم ، غير أن الأهالي ينفرون من اليهود إذ يعتبرونهم كفارا لهذا كانوا ينظرون إليهم نظرة احتقار حتى أصبح ذكر اسم اليهودي مقرونا بالكلمة العامية المتداولة في أوساط المسلمين " حاشاكم " و هي الكلمة التي شاع استعمالها متى ذكر الشيء القبيح الدنيء .
ازدهرت التجارة و بعض الحرف التقليدية التي يزاولها اليهود خاصة إبان فترة الحماية ، و لكن بعد الاستقلال بدأوا يغادرون البلدة تدريجيا حتى لم تبق منهم إلا قلة قليلة ، عاصرناها في طفولتنا .
و هنا أذكر و أنا طفل في أواسط الستينات
و أواخرها ما تعج به حركة اليهود بمركز البلدة ،
فقد كان لهم معبد خاص يقيمون فيه طقوسهم
التعبدية ، كما أن أبناءهم كانوا يرتادون المدرسة مع أبناء المسلمين ، إلا أنهم لا يحضرون دروس التربية الإسلامية ، التي كانت تلقن بعد استراحة الحصة الزوالية .
هذا و قد لاحظ جميع سكان البلدة أن اليهود
يعشقون بعض المنتوجات المحلية التي تجود بها القرى المجاورة و يفضلونها عما سواها ، فيقبلون على شرائها من الفلاحين الذين يعرضونها في سوق البلدة ، هؤلاء الفلاحون الذين يعرفون نوع
المنتوجات التي يرغب فيها اليهود كالبيض
و الفجل و الجزر و الوركية ( warguiya ) و الكمأ أي ( الترفاس ) بلهجة أهل البلد ، و هو المنتوج الأكثر طلبا في إبانه من قبل اليهود يشترونه بكميات كبيرة و بأي ثمن كان .
في تلك الفترة كان لوالدي رحمه الله متجر لبيع
الأثواب في مركز البلدة ، و قد صادف أن كان
بجوار متجره ورشة خياطة ليهودي يدعى
" يحيى بيخزر " هذه الورشة التي كانت ملتصقة
ببيت اليهودي حيث زوجته " رحمة " و ابنتهما
" سارة " التي كانت في مثل عمري ،
و ما دام يفصلني عام أو عامين عن سن التمدرس الذي كان آنذاك لا يقبل إلا من استوفى سبع سنوات ، فقد كنت أقضي جل أوقاتي في متجر والدي ، و هناك تعرفت على سارة و كنا نلعب سويا أمام متجري والدينا .
في أحد الأيام و بينما نحن نتلهى ، نادت علينا
أم سارة ، و ناولت كلا منا قطعة خبز ، أمسكت
قطعة الخبز بيدي و طفقت أتفحصها لأنها تختلف
عما ألفته من خبز أمي رحمة الله عليها ، فخبز اليهود أكثر بياضا و أكبر سمكا ، قد يتبادر إلى ذهنك للوهلة الأولى أنه قطعة حلوى و ليس خبزا،
تناولته حافيا بنهم شديد و أعجبني طعمه .
لاحظ والدي ذلك و عند عودتنا إلى المنزل زجرني
و نصحني بألا أتناول طعام اليهود مهما كان
و تحت أي ظرف ، وعدته ألا أكررها ثانية ، و لكن
لا أخفيكم سرا أنني كنت من حين لآخر أتناول منه
قطعة صغيرة متى سلمتني إياها سارة ، و ليتها كانت قطعة كبيرة ، إذ لا أستطيع كبح جماح شهيتي لأنه طعمه لذيذ لا يمكن لطفل في مثل سني أن يقاوم رغبته ، و لكنني أعمل المستحيل حتى لا يكتشف أبي أمري فأتعرض لعقابه و ما أدراك ما عقابه .
كانت هذه بعض ذكريات الطفولة التي بقيت عالقة
بذاكرتي ، و نحن نكبر في السن و وجود اليهود مستمر بالبلدة لكنه في تناقص ملحوظ حتى
أواسط السبعينات حيث غادر آخر يهودي البلدة
و كان اسمه ( إسحاق ) ، و بذلك انتهى وجودهم
بعد أن عمروا زمنا طويلا قبل و أثناء و بعد
الاستعمار ، و هذا حال الدنيا و تقلباتها ، لا يدوم
لأهلها حال .
✏ من ذكريات طفولة زايد وهنا ✏
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق