المسكين

                  ◾   المسكين  ◾


           مات المسكين و ماتت معه أحلام و آمال كثيرة كان يمني النفس بأن تتحقق على يد فلذات أكباده حين يكبرون ، كان يرى فيهم المنقذ الوحيد من الفقر و المعين له في شيخوخته التي بدأت بوادرها تغزو بدنه و قد سرع في ظهورها داء السكري الذي أصيب به منذ مدة .

اشتغل المسكين حارسا للمتاجر بالبلدة ، يحرسها

ليلا ، و كان أكثر يقظة بعد العاشرة ليلا حينما تغلق جل المتاجر ، و تخلو الشوارع إلا من بعض

المارة مخافة أن يقتحم لص غادر أحد الدكاكين .

يحمل في يده هراوة و هو يتفقد أبوابها تحسبا أن

ينسى أحد التجار الباب موربا دون إقفال محكم .

نعم مات المسكين و لم يبق في نفسي إلا أثر من

تلك الدعابة التي طالما كنا نتمازح بها عند كل لقاء

فهو رغم قلة حيلته و ضعف حالته كان رجلا بشوشا ، يخلق لنفسه ما ينسيها صغائر الدنيا

و نقائصها ، فيميل إلى الفكاهة و المزاح مع أهالي

البلدة و قد يجعلها وسيلة لاستمالة القلوب إليه ،

علها تنظر إليه نظرة المشفق على حاله ، فيناله

شيء من الهبات دون أن يلجأ للاستجداء من 

أحدهم حفاظا على ماء وجهه .

كان رحمه الله يثق في ثقة كبيرة ، فيبثني شكواه و يطلعني على أسراره و يستشيرني في أمور حياته و أسرته ، إذ كان حلمه الوحيد و مبتغاه الذي يعلق عليه كل آماله أن يبلغ أبناؤه مبلغ

الراشدين عساهم يريحونه من الأعباء التي تحملها

قبل زواجه و بعده ، و عندها سيتفرغ إلى علاج بدنه الذي أنهكته ظروف العمل الشاقة التي تقلب

فيها و هو يصارع الحياة من أجلهم .

أراد من أبنائه أن يريحوه و لكن سبقهم الموت 

فأراحه من تعب الدنيا .

مات المسكين دون أن يظفر بشيء مما كان يأمله ،

حزنت لموته حزنا شديدا و بقيت ذكراه عالقة 

بذاكرتي ، أفرغت بعضها في هذه السطور القليلة

و لو أطلقت لها العنان لصالت و جالت في مضمار

حياته التي غلبت تعاستها سعادتها .

ترحمت عليه و على والداي و أموات المسلمين

تلوت قوله تعالى " كل نفس ذائقة الموت "

ثم طويت الورقة و خلدت للنوم ، عفوا للسهاد .


        ✏ من الذكرى ما يحزن    زايد وهنا  ✏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق