هدايا الأموات

                 ◾ هدايا الأموات ◾


           في طريقه  إلى بيته ، بعد غياب طال لمدة عام في المهجر ، ارتسمت على محياه علامات الفرح ، و كل شوط تقطعه الحافلة يزداد شوقه

و حنينه لملاقاة زوجته و معانقة أبنائه الثلاث .

 ها هو الآن في وطنه يجلس في المقعد الأمامي خلف السائق ينظر بعينين جاحظتين إلى الطريق

أمامه وقد أنارته مصابيح الحافلة .

يرفع بصره من حين لآخر إلى حقيبته الصغيرة المركونة في الرف العلوي للحافلة ، فهي تحوي   ما يسر أبناءه من الهدايا  ، لم يرد أن يتصل بهم عبر هاتفه المحمول ليخبرهم بمجيئه لأنه يعرف أنهم لن يناموا الليل من شدة فرحهم و أنهم سيقضونه  ساهرين حتى الفجر ينتظرون موعد وصوله ، كما فضل في اعتقاده هو أن يجعل دخوله عليهم مفاجأة تزيد من بهجتهم ، لذلك كان بين الفينة و الأخرى يرسل نظرة خاطفة على عداد  الحافلة التي تقله ، و كم تمنى لو  يزيد السائق في السرعة ليوصله إلى بلدته التي ما زالت تفصله عنها مسافة طويلة قد تصل إلى خمس ساعات ، أتعبه طول السفر فكان يغفو قليلا و يصحو كثيرا ، لأن فرحته بلقاء أهله تنسيه التعب و تحرمه النوم .

شغل هاتفه فإذا الساعة تشير إلى منتصف الليل ،

غالبه النعاس فاستسلم للنوم و فجأة استيقظ مذعورا على صراخ السائق و الركاب ، لقد فقد

السائق السيطرة على الحافلة التي أخذت تتأرجح

يمينا و يسارا ، حاول السائق بما أوتي من قوة

أن يوقفها و بعد جهد جهيد تم له ذلك ، و لكنها ما زالت تتأرجح و هي رابضة في مكانها ، نزل كل من كان على متنها و هم يشعرون بدوار و بشيء غريب يحرك الأرض تحت أقدامهم فيوشك أن يلقي بهم أرضا ، ثم فجأة هدأ كل شيء ، نظر إلى ساعة معصمه فإذا هي الرابعة صباحا و أيقن أنه لم يعد يفصله عن بلدته إلا بضع كيلومترات .

انطلقت الحافلة من جديد تواصل سيرها ، و لكن

سرعان ما توقف السائق ، فالطريق لم تعد صالحة

للسير إذ انشق إسفلتها و أصبحت فيه أخاديد

عميقة لا تسمح بالمرور ، حينها علم الجميع  أن ما حدث هو زلزال عنيف .

اعترى صاحبنا خوف شديد على أفراد أسرته ، لأنه يعلم يقينا أن هذا الزلزال العنيف قد يدمر البلدة عن آخرها و كيف لا و هو على مشارفها إذ لم تعد   تفصله عنها إلا مسافة قليلة ،  مما أجج في نفسه الشعور بالهلع ، ترجل من الحافلة و أخذ متاعه على كتفه و انطلق مسرعا يطوي الكيلومترات المتبقية سيرا على الأقدام و الهواجس تتلاحقه

و ما هي إلا ساعتين حتى أشرف على بلدته ،

و قد هاله ما رأى ، غبار كثيف يعلو سماء البلدة ، حجب عنها أشعة الشمس عند شروقها ، فعلم أن الزلزال فعل فعله بأهلها ، وهذا ما زاد من مخاوفه ،  

و لكنه تابع السير يهرول تارة و يعدو أخرى ، يحدوه الأمل في لقاء زوجته و أبنائه و هم سالمون .

المنازل محطمة عن آخرها و الناس في هرج 

و مرج ، صراخ و بكاء هنا و هناك ، هذا يبكي

والديه و الآخر يبكي إخوته و ذاك يبكي أبناءه ،

و الكثير منهم في حيرة من أمره لا يعرف مصير أهله ، هذه المشاهد بعثت الرعب في نفسه ، فإذا الأمل الذي كان يراوده بدأ يتضاءل و يتلاشى أمام هذه الفاجعة المروعة و رغم ذلك أخذ يشق الدروب نحو منزله ، و ما أن وصل حتى ألقى ما على كتفه أرضا و سقط مغشيا عليه من هول ما رأى ، فقد دك المنزل التي تسكنه أسرته بالأرض دكا و صار ركاما بعضه فوق بعض .

حمله بعض الرجال على عجل و جروا به ظنا منهم أنه ميت ، و لكنه بفعل الرجة التي أحدثوها عاد إليه وعيه و فتح عينيه و انهمرت منهما دموع غزيرة ، حينها أنزلوه أرضا و تركوه لشأنه ما دام حيا و ليس به أدى .

جاء فريق الإنقاد على وجه السرعة بمعداتهم

الخفيفة و الثقيلة ، يزيلون الركام أملا في العثور على أحياء بين الأنقاض ، و كان صاحبنا يساعدهم

عساه يجد أهله أو أحد منهم على قيد الحياة

و لكن مشيئة الله قضت أن يخرجوهم من تحت الأنقاض أمواتا .

نعم لقد التقاهم و لكن العناق كان من طرف واحد

فقد ارتمى عليهم يضمهم إليه ، و ينفض عن وجوههم الغبار و يعانقهم واحدا واحدا  ، و كأنه ينتظر منهم أن يبادلوه العناق ، في تلك اللحظة

جرى إلى حيث ترك الهدايا ، أتى بها و أخذ يعطي كل واحد منهم هديته و يضعها على صدره ،

و لكن هيهات فقد سبقته إليهم يد المنون 

و اختطفت منهم فرحهم بأبيهم و هداياه .

جلس ينظر إليهم جثثا هامدة و يبكي بكاءا مريرا في الوقت الذي كان فيه رجال الوقاية يحملونهم

إلى حيث يجمعون الموتى .

تحركت في دواخله بواعث الإنسانية ، فقام يساعد

المنقذين في البحث عن المطمورين تحت الحطام

 أحياءا كانوا أو أمواتا ، سواء في حيه أو في أحياء أخرى من البلدة  لمدة ثلاثة أيام لم يذق خلالها طعم النوم و لا طعم الأكل حتى خارت قواه و أشرف على الهلاك ، أخذ معه ثلاثة  أغطية مما وجده تحت الركام و انزوى بنفسه مكانا بعيدا بالقرب من مقبرة ، صنع بواحد من الأغطية خيمة صغيرة و افترش الثاني  و جعل الثالث غطاءا  

و راح في سبات  عميق لم يفق منه إلى الأبد .



                           ✏  بقلم  زايد وهنا   ✏


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق