الرباط الوثيق
لا يمكن لأي بوذنيبي يمر بالحقول المحادية لواد كير خلف المدرسة المختلطة دون أن يلفت انتباهه وجود المرحوم ( با لحسن ) و هو منهمك في أعماله الزراعية ، له ارتباط وثيق بالأرض ، لا يثنيه عن العمل قر الشتاء و لا حر الصيف ، يعتني بها اعتناءا منقطع النظير ، و كأنها فلذة كبده ، يأتي الحقل باكرا قبل أن ترسل الشمس أول شعاع لها ، و لا يغادره إلا عند حلول الظلام ، قاصدا بيته ليأخذ قسطا من الراحة في انتظار بزوغ فجر جديد ليلتحق بالحقل ، و هكذا دواليك .
رجل مجد كتوم لا يختلط بالناس أبدا ، لا يمكن
أن تراه في أي مكان غير الحقل نهارا و البيت ليلا،
ما ثبت يوما أن شوهد في مكان غيرهما ، حتى منتوجات حقله فقد كان أبناؤه هم من يتولون بيع غلاتها في السوق ، هذا هو ( با لحسن ) و هذا دأبه
لما يزيد عن أربعة عقود ، عايشناها على نفس الوتيرة .
كانت أواخر الستينات و بداية السبعينات هي فترة
تتلمذنا بالمدرسة المختلطة ، و كنا نخرج خلسة
أثناء الاستراحة إلى الحقل التابع لتعاونية مدرستنا بجوار حقل ( با لحسن ) و الذي كان حارس المدرسة يزرع فيه بعض أنواع الخضر خصوصا الجزر و اللفت ، فكنا نقتلع منهما جزرتين أو ثلاث و نقوم بغسلها في الساقية التي يتدفق ماؤها على جانب الحقل ، و نتناولها بشراهة و نهم شديدين دون أن يرانا حارس المدرسة أو أحد الأساتذة فنعرض أنفسنا للعقاب الأليم .
فإذا لم نجد شيئا في حقل المدرسة ، أخذنا من حقل ( با لحسن ) ما تعودنا على أخذه و نلود
بالفرار عائدين عبر الثقب الموجود أسفل سور
المدرسة ، و هذا ما كان يقلق ( با لحسن ) و يملأ صدره غيضا ، حتى أنه رغم انطوائه على نفسه
و عدم احتكاكه بالناس إلا أنه يضطر في أحيان كثيرة أن يشكونا للأساتذة الذين يأخذون بخاطره
و يطمئنونه و يعدونه بعدم تكرار مثل هذه السلوكات ، فينقلبون نحونا يذيقوننا من العقاب
الأليم أنواعا .
و لكن ما أن تمر أيام قلائل حتى نعيد الكرة ، قد
تسلم الجرة إذا لم يرنا أحد و قد نتعرض للعقاب
بفعل وشاية التلاميذ .
كبرنا و أصبحنا رجالا ، و تفرقت بنا سبل العيش في دروب الحياة ، و ما زال ( با لحسن ) رغم تقدمه في السن على نفس النهج ، يسقي الأرض
عرقا و تشبعه حبا و خضرا ، و لم يفارقه عنها إلا الأجل المحتوم ، فرحمة الله عليه ، كان مثالا
للفلاح المحترف ، و ما زالت ذكراه عالقة بأذهاننا
نستعرضها كلما مررنا بجانب الحقل الذي تغير منه
الكثير بعد وفاته .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق