🔽 العجب 🔼
من عجيب الأمر و أغربه ما حدث من تغيرات اجتماعية في بلدتي في مدة وجيزة لا تتعدى ست سنوات ، هذه البلدة التي ولدت بها و ترعرعت في أحضانها إلى أن بلغت سن العطاء ، فعملت مدرسا بها بالمدرسة الابتدائية نفسها التي تتلمذت فيها على يد أساتذة أفاضل ، رحم الله من غادرنا منهم إلى دار البقاء ، و أطال الله في عمر من هم على قيد الحياة ، و الشكر و التقدير و الامتنان لهم جميعا أحياءا و أمواتا .
عملت في التدريس ببلدتي لمدة أربع و ثلاثين سنة ، و لم أغادرها إلا قبل ست سنوات خلت ، كنت خلالها أقوم بزيارة البلدة مرة أو مرتين في السنة ، و لكن ما أثار استغرابي هو أن هذه المدة القصيرة التي تركت فيها البلدة كانت كافية لتحدث بها تغييرا جذريا ، لا على مستوى عمرانها أو مصالحها أو بناها التحتية أبدا فهذه كلها بقيت كما كانت أو زادت سوءا ، فالبلدة ترزح تحت التهميش ، و لا يزيدها مرور الزمن إلا تدهورا و إقصاءا على جميع الأصعدة ، و لكن أقصد بالتغيير هو ما عرفته من اكتظاظ بأناس أجانب عنها ، إذ بفعل غنى فرشتها المائية الجوفية ، و ملاءمة أراضيها لاستنبات أشجار النخيل ، أحدثت بها و بضواحيها ضيعات فلاحية لانتاج التمور ، خاصة و أن البلدة تشتهر بأجود أنواعها ، و لم تترك منها بقعة إلا و أصبحت ضيعة ، حتى
ليخيل إليك أن عدد الضيعات يفوق عدد الساكنة الأصليين ، و هو ما دفع أصحابها للبحث عن اليد العاملة بأي ثمن ، مما جعل العمال يؤمونها من كل حدب و صوب قصد العمل بها ، فغصت البلدة بالعمال و ضجت بالحركة و هذا حقا ساهم بصورة واضحة في تحريك عجلة البيع و الشراء ، و أصبح
الطلب على منازل للكراء أمرا ملحا .
المؤسف هو أنه رغم هذه الأعداد من الوافدين عليها إضافة إلى السكان الأصليين و الأعداد الكبيرة من الجنود التي ترابط بها باعتبار البلدة قاعدة عسكرية منذ القديم ، إلا أن مرافقها تعرف نقصا كبيرا و ضعفا فضيعا في جميع القطاعات
و بالخصوص في القطاع الحساس ذي الأهمية القصوى
ألا و هو قطاع الصحة ، ففي البلدة مستوصف صغير شبيه بالمستوصفات الموجودة في القرى الصغيرة النائية ، حالته تبعث على اليأس إذ يعرف ضعفا بل عجزا في تقديم الخدمات لهذا العدد الهائل من الساكنة ، فكثيرا ما يبقى لمدة طويلة من غير طبيب مما يجبر الناس على التنقل إلى المدن قصد الاستشفاء .
كنت إذا أتيتها زائرا أحلم بأن أجد شيئا من هذا قد تغير
و لكن للأسف دار لقمان على حالها إن لم أقل تزداد أمورها سوءا ، تراني أتجول في أرجائها و أنا أشعر بنوع من الغربة
و كأنني غريب عنها ، فبعد أن كنت أعرف كل أهاليها دون استثناء ، أصبحت بعد هذه المدة القصيرة التي تركت فيها البلدة لا أعرف من المارة إلا القلة القليلة ، أما أغلب من
أصادفهم فهم وجوه غريبة عني .
مررت بالقرب من دار الشباب ، و وقفت ببابها الخارجي ، فإذا هي خاوية على عروشها ، ينعق الغراب على سطحها ، و كأنها طلل يقف عليه شاعر متيم ولهان ، لم أتمالك نفسي إذ همى من عيني دمع ساخن ، مسحته بكم قميصي قبل أن يلحظه
المارة .
لقد تغير كل شيء ، كانت بلدتي و إلى عهد قريب تعرف حركة أدبية و ثقافية قل نظيرهما ، قلما يمر شهر دون أن تنظم إحدى الجمعيات الفاعلة نشاطا هادفا تغص له قاعة دار الشباب بالحاضرين من فئات مختلفة ، قد تكون محاضرة أو ندوة أو أمسية شعرية أو فنية أو مسابقة ثقافية يستفيد
منها التلاميذ أو غير ذلك مما يمتع و يفيد .كما أن البلدة عرفت تنظيم ملتقيات كبرى خلفت صدى واسعا في الأوساط المحلية و الوطنية ، حضرها أدباء و فنانون من العيار الثقيل و أشادوا بها و بحسن الضيافة و دقة التنظيم رغم الإمكانيات المتواضعة ، و نذكر منها بالخصوص ملتقى بوذنيب للإبداع الذي تنظمه جمعية الواحة ، و كذا مهرجان أولاد علي ، هذه التظاهرات التي ملأت سمعتها الأفاق و صار لها إشعاع امتد شرقا و غربا حتى صار يضرب به المثل من قبل الشخصيات الوازنة التي كانت تحضر فعالياته .
للأسف الشديد و بين عشية و ضحاها صار كل هذا في خبر كان ، و هنا ثمة سؤال يطرح نفسه بإلحاح ، ما السبب أو الأسباب التي أوقفت تلك العجلة عن مواصلة سيرها ، و أين يكمن الخلل ؟ و إن كانت ، فلماذا لم تستأنف سيرها بعد انتفاء الأسباب و إصلاح الخلل ؟
الجواب عن هذا السؤال بيد القراء ، و بيد جمعيات البلدة ، أود من الجميع أن يدلني عليه فقد احترت في أمره و لم أعد أطيق صبرا ، لأن غيرتي على بلدتي يزداد لهيبها احتراقا كلما قارنتها ببلدات أخرى ، خاصة و أنا أعلم أن بها طاقات
و هامات فكرية يمكنها نفض الغبار و إرجاع البريق
و اللمعان على الأقل للأدب و الثقافة كما كان سابقا و أكثر
و هذا ليس بالأمر الصعب ، و لا ملامة عليهم في باقي القطاعات الأخرى إن لم يجدوا إلى إصلاحها سبيلا .
✏ الغيور زايد وهنا ✏
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق