👌 المتبركون 👌
رغم أنني قضيت ست سنوات بهذه المدينة
فأنا لم أكتشف بعد كل المناطق المجاورة لها ، نعم زرت الكثير منها خصوصا تلك السياحية التي يرتادها الناس ليستمتعوا بجمال الطبيعة
و الترويح عن النفس ، و ما زلت من حين لآخر أقوم رفقة أسرتي بزيارة بعض الأمكنة التي أسمع الناس يتحدثون عنها و لم يسبق لي أن رأيتها .
و لعل أغلب حديث أهل المدينة كان يدور حول
مكان به ولي صالح حسب معتقدهم ، يؤمه الناس
من كل حدب و صوب لزيارته و طلب البركة منه ،
بل منهم من حقق له مطلبه من الزيارة الأولى ،
و غير ذلك من المكرمات التي تميز هذا الولي الصالح ، كنت أستمع لأحاديثهم هذه بنوع من
الازدراء و الاشمئزاز و لكني لا أبدي لهم ما في
نفسي بل أستدرجهم للحديث في أمور أخرى
حتى لا أدخل معهم في جدال لن نخرج منه بنتيجة نظرا لتغلغل هذه الأفكار الخرافية في نفوسهم و لا سبيل لإزالتها مهما فعلت ، لذلك تجدني ممتعضا مما أسمع فكنت صراحة لا أصدق
هذه الخرافات و أمقت مجرد الخوض فيها .
في يوم أحد ، قررت أن أزور القرية حيث دفن الولي الصالح ، لا رغبة في زيارة ضريحه و لكن لأتعرف القرية و طبيعتها الجبلية قصد الترويح عن النفس من روتين العمل الدؤوب طيلة
الأسبوع ، و كسر رتابة الحياة لتجديد النشاط
و شحذ الهمة على مواصلة الجد و لو أن العزيمة
بدأت تفتر و القوة البدنية بدأت هي الأخرى تخور
خصوصا بعد الستين من العمر .
لم تكن القرية سوى بعض الأبنية و المتاجر الصغيرة التي تحيط بالضريح ، تجولت بين أزقتها
الضيقة و كنت أقف أمام واجهات المتاجر لأتفحص السلع المعروضة ، لعلني أعجب بمنتوج فأقتنيه ، و لكن لا شيء يغري بالاقتناء ، فالسلع
المعروضة لا تخرج عن نوع البضاعة التي يقتنيها
الزوار ليتبركوا بها كقربان للولي الصالح ، زيادة
على الهدايا و الهبات التي يحملونها معهم لتقديمها
للقيم على الضريح ، و لو أن الهبات التي تنفق على
الأموات في كل الأضرحة و ما أكثرها صرفت للأحياء الفقراء لكان خيرا لهم و لاستجاب الله دعاءهم .
توجهت نحو باب الضريح بخطى متثاقلة لأستطلع الأمر و أتحقق مما يروجه أهالي المنطقة ، و ما كدت ألج سقيفته حتى اختنقت أنفاسي بدخان البخور الذي لوث المكان ، تقدمت ببطء وأنا غير راض عن نفسي و كأن شيئا في صدري يعاتبني ، اعتراني الشعور بالخجل و النقص كمن يرتكب كبيرة ، و لكن تشجعت و أنا أبرر فعلي و أقنع نفسي أنني ما دخلت للتبرك كما يفعل الزوار
و إنما هو فضول الاستطلاع فقط .
الضريح عبارة عن صندوق كبير ، ينتصب وسط بهو واسع ، تكسوه أغطية وحلل قشيبة و حوله
الزوار رجالا و نساءا ، شبابا و شيابا ، يتمسحون
به في خضوع و تذلل و هم يمررون أيديهم على وجوههم و كأني بهم ينقلون البركة إلى صدورهم ، بل منهم من جعل الضريح متكأ يستند إليه و كأنه في حضن أمه ، و منهم من لا يفتر لسانه عن التلهج بالدعاء و التضرع للولي بأن يشفي سقمه أو يفك عقدة عقمه أو يرد عنه سحر ساحر أو غير ذلك من الطلبات و التوسلات ، و لو كان الأموات ينطقون لنهرهم الدفين قائلا : " انفضوا من حولي أيها الجهلة ، أنا بريء منكم و مما تدعون ، لست إلا عبدا مذنبا مثلكم لا حول لي و لا قوة ، أنا من في حاجة إلى دعائكم لي بالرحمة و المغفرة عساني أنجو من العذاب ، أما أنتم فلستم في حاجة إلي بل توبوا إلى الله جميعا ما دمتم أحياء ،
و استغفروه قبل أن تصيروا إلى ما صرت إليه ،
و اسألوه جلت قدرته من كل خير تريدونه ، و لا تجعلوا بينكم و بينه وسيط ، فهو وحده القادر على تحقيق رغباتكم ، إن شاء عجل بها و إن شاء أخرها و إن شاء منعها و في كل الأحوال يكون الخير فيما اختاره ، لأنه سبحانه و تعالى يعلم ما لا تعلمون " .
هذا و أغرب شيء زاد من ريبتي و تعجبي أن من بين الزوار رجالا أنيقين و نساء في مقتبل العمر أنيقات و شابات يافعات ، يظهر من خلال مظاهرهم البراقة أنهم على مستوى لا بأس به من الثقافة و الوعي ، إذن كيف تطاوعهم أنفسهم أن يستعطفوا مخلوقا لا يملك لنفسه و لهم شيئا ،
و نسوا خالقهم الذي بيده الخير كله ، ( نسوا الله فأنساهم أنفسهم ... ) ثم من أخبرهم خبر اليقين أن هذا الدفين هو حقا من أولياء الله الصالحين ،
إذ لا يعلم سرائر الناس إلا الله .
و استفسارات أخرى تتراكم في رأسي و لا أجد لها تفسيرا غير الجهل و الخرافة اللذين استحوذا على عقول هؤلاء .
كم وددت أن أحاور أحدهم لأتأكد من صدق أحكامي و لكن عدم معرفتي بأي منهم حال دون
ذلك ، غير أنني وجدت من يشبع فضولي غير بعيد عن الضريح في مقهى حيث احتسيت فنجان قهوة
و استدرجت النادل للحديث عن هذه الأمور ،
فأخبرني بما لا يدع مجالا للشك أن بعض الزوار
يشتغلون في أسلاك مختلفة من الوظيفة العمومية
يتعجب المرء أن يرى أمثالهم في هذا المكان
و يستبعد أن يراهم على هذه الحال .
أخرجت من صدري زفيرا حارا و أنا أغادر المكان ، و شعرت في قرارة نفسي أنني ارتكبت جرما في حقها إذ أجبرتها على رؤية ما لا تستسيغه ،
و لكنني أعود فأهدئ من روعها بأني ما فعلته إلا لأقف على الحقيقة بنفسي .
لقد أيقنت الآن أنه ليس كل مثقف هو إنسان واع ،
شتان بين الوعي و الثقافة ، و شتان بين الإيمان
الراسخ الصادق الطاهر الذي يكون فيه التوكل على الله وحده في جميع الحركات و السكنات
و بين وسوسة الشيطان التي توقع الناس في الشرك الأكبر .
✏ بقلم زايد وهنا ✏
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق