صناعة الرجال

                 💪   صناعة الرجال 💪


           جرت العادة كلما اقترب عيد الأضحى أن أقتني الأضحية عند أحد الفلاحين بإحدى القرى 

الصغيرة التي تبعد عن البلدة --التي أسكنها منذ انتقلت إليها قبل ست سنوات -- بحوالي عشرين

كيلومترا عبر طريق غير معبدة ، مسالكها وعرة ،

لا يسلكها أهاليها إلا على ظهور البغال و الحمير 

يقطعون هذه المسافة كلما دعت الضرورة للتسوق من البلدة المجاورة ، و نظرا لوعورة مسالكها كنت

أزورها مرة واحدة في السنة لاختيار الأضحية التي أرغب فيها ، أتحمل أعباء التنقل طلبا للجودة،

فصاحبنا هذا يعتمد على ما تنبته الأرض من كلإ

كعلف لماشيته مما يكسبها سمنة و لذة طبيعيتين .

و في إحدى الزيارات أعجبت بطبيعة القرية 

و مناظرها الجبلية الخلابة ، فجلست على حافة 

جدول ماء ، أستمتع بخرير المياه ، و استرعى انتباهي مجموعة من أطفال القرية جالسين بالقرب من الجدول و هم يخلطون نوعين من التراب الأحمر و الأصفر بالماء إلى أن يصير طينا

لزجا ، و يصنعون منه مجسمات لحيوانات مختلفة ، شدني فضولي إليهم و أخذت أتتبعهم 

و هم في غمرة النشوة بما يصنعون ، و كلما رفع

أحدهم بصره نحوي ابتسمت له ابتسامة إعجاب

و تشجيع ، فاحتدت روح المنافسة بينهم و صار

كل منهم يريني منتوجه المصنوع من الطين ،

هذا خروف و هذا حمار و هذه بقرة و هذه دجاجة

فكنت أقدر و أجل ما صنعه كل واحد منهم بنفس

الميزة دون استثناء .

في هذه اللحظة تبادر إلى ذهني السؤال الذي طالما كان يراودني ، فقلت في نفسي :

أيهم أكثر ذكاء و سعادة ، أطفال المدن أم أطفال

القرى ؟

و من غير تكلف و لا عناء تفكير ، جاء الجواب

فورا كأنه يفرض نفسه ، طبعا أطفال القرى .

فهؤلاء يستعملون ذكاءهم فيصنعون لأنفسهم لعبا

يتلهون بها ، بما ملكت أيديهم من مواد أولية بسيطة مما توفره بيئتهم ، يستغلون الطين 

و القصب و الأعواد و الأسلاك و غيرها في صناعة أشياء عجيبة كالفخاخ لصيد الطيور و السيارات مستعملين الأسلاك و العلب الفارغة و غير هذا

كثير ، و هذا يكسبهم مهارات و مواهب  و ينمي لديهم الذكاء ، و يبعث في أنفسهم سعادة غامرة كما أنهم يساعدون الكبار في مهام أخرى بما تسمح به طاقتهم البدنية ، و هذا يربي فيهم روح الصبر و التعاون ، و الاعتماد على النفس و بذلك يدركون

في سن مبكرة  مطالب الحياة و مصاعبها . 

على عكس أطفال المدن الذين يشترون كل شيء جاهز من الأسواق و المتاجر دون أن تكون لهم

فيه لمسة يبينون فيها عن مواهبهم و قدراتهم

مما يجعلهم لا يبذلون جهدا في الحصول على 

ما يريدون ، فهم دائما يعتمدون على أوليائهم في

كل شيء حتى لو كان بسيطا ، و هذا ما أفقدهم

الثقة بأنفسهم ، و جعلهم مدللين ، حريتهم مقيدة بقيود الخوف فلا يستطيعون الخروج لوحدهم ، 

و لا يكلفهم أولياؤهم القيام بمهام و لو كان في

مقدورهم القيام بها  ، و هذا كله ينعكس على شخصياتهم و يحد من مهاراتهم في الحياة .

و الحقيقة أني خبرت بنفسي هذا الأمر ، فاشتغالي

كمدرس لمدة تربو على الأربعين سنة ، لاحظت

من خلال هذه التجربة الطويلة أن نسبة الذكاء

و الاجتهاد لدى أطفال القرية تفوق كثيرا مثيلتها

لدى أطفال المدن ، و لولا الهدر المدرسي الذي

يتعرض له أطفال القرية بفعل البعد عن الحواضر

و الفقر أحيانا مما يمنعهم من متابعة دراستهم لحققوا ما لم يحققه أمثالهم من أبناء المدن 

و لكانوا من نخبة المجتمع ، و هو ما نراه عند القلة القليلة منهم ممن أسعفتهم الظروف و تابعوا دراستهم فهم الآن في مراتب عليا من الوظائف الحساسة في المجتمع .

هكذا سرحت بي الأفكار في ذلك المكان الجميل 

و لكن صراخ الأطفال و هم يودعونني أخرجني

من دوامة التفكير ، نظرت إلى الساعة و قد 

اقترب موعد صلاة الظهر ، فإذا بصاحبي الفلاح

يقف بجانبي و يدعوني لوجبة الغذاء ، و يلح

في ضيافتي إلحاحا غريبا لم أجد معه مبررا ،

و لحد كتابة هذه السطور ما زلت أذكر لذة تلك

الوجبة و طعمها الفريد ، و كأني بها عالقة بلساني

و ها أنا أنتظر بشغف اقتراب موعد العيد لأزوره

في قريته من أجل اقتناء الأضحية و الاستمتاع 

بوجبة لذيذة كالعادة .

        

            ✏ هكذا يرى الأمور :  زايد وهنا  ✏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق