◾ التذوق الفني ◾


                    🍀 التذوق الفني 🍀

        ليس من الغريب في السفر أن تجمعك الحافلة بأناس قد لا تعرفهم ، ولكن سرعان ما يحدث تجاذب و تقارب بينك و بين شريكك في المقعد سيما اذا كانت المسافة طويلة ، وهو ما حصل لي ذات مرة اذ شاءت الأقدار ان يكون جليسي شاب في مقتبل العمر ، قوي البنية يرتدي ألبسة ضيقة مما يرتديه شبابنا اليوم ، و هو يعتد بنفسه وبعضلاته المفتولة ، و قد حلق رأسه و ترك كومة من الشعر في أعلاه اقتداءا بأقرانه ، حييته فرد التحية بايماءة من رأسه دون أن يكلف نفسه عناء ازالة السماعات من أذنيه ، فقد كان منشغلا بالاستماع الى هاتفه الخلوي ، وضعت حقيبتي في مكانها و جلست الى جانبه ، أتمتم ببعض ما علق في ذاكرتي من أدعية السفر، و ما هي الا لحظات حتى انطلقت الحافلة تسابق الريح نحو مدينة الرباط. و كعادتي في كل سفر، أخذت أتصفح جريدة كنت قد اقتنيتها من قبل ، و استقر بي الاختيار على موضوع أثارني من خلال عنوانه حول تنامي ظاهرة تعاطي المخدرات بالاعداديات و الثانويات ،ناهيك عن الجامعات و المعاهد العليا ، قرأت المقال بكل تفاصيله ، و تأوهت حسرة على الشباب الضائع ، فطويت الجريدة و وضعتها على ركبتي ، فاذا بجليسي ينظر الي و كأنه يريد أن يقول شيئا ، فابتسمت في وجهه حتى أزيح عنه عبء ما يفكر فيه ، عندئد أزال السماعة من احدى أذنيه و قال " ألا تهوى الموسيقى و الأغاني ؟ " قلت " بلى ، أنا أعشقها عشق الولهان المتيم ، و لا أنام الا على نبراتها " ، ناولني احدى السماعتين و قال " خذ و استمع لهذا " فما كدت أضع السماعة في أذني حتى صعقت من هول ما أسمع ، مجرد أصوات آلات صاخبة لا تناغم و لا تجانس في ألحانها و لا ميازينها و لا معنى لكلماتها المبتذلة ، حينها تذكرت قول الشاعر" عوى الذئب فاستأنست به اذ عوى ***و صوت انسان فكدت أطير رغم هذا لم أبد أي رد فعل بل أعدت اليه السماعة و قلت " استمتع يا هذا ، فالطريق طويل ، و الملل يأخذ من المسافر مأخذه "، فطفق هو يحدثني حديث المتمكن البارع عن بعض المغنيين- المتطفلين و الذين لا تطاوعك نفسك لسماع نهيقهم – ويتبجح بتتبعه لمسارهم الغنائي و ما يحفظه من ألبوماتهم العجيبة في نظره ، - العكرة المنحطة في نظرالعارفين بأصول الفن الراقي- ، فكنت في كل مرة أنظر اليه وأشفق عليه من جهله و انحطاط ذوقه ، سئمت من كلامه وأردت أن أغير طبيعة النقاش ، سألته عن عمله ، فأجاب في نوع من التفاخر و الكبرياء " أنا طالب جامعي ، أحضرأطروحتي لنيل الاجازة في الأدب العربي " قلت " خيرا فعلت ،وفقك الله ، و هي فرصتنا للحديث عن الأدب العربي، قديمه و حديثه،نثره وشعره ، بلاغته و نحوه ، و هي فرصة لي كذلك لأستفيد من أمثالك ممن لهم الالمام و التخصص ، لأنني مشغوف بالشعر ، فهلا شنفت سمعي ببعض الأشعار؟ " ،امتعض قليلا و عض شفته السفلى و قال " لا أحفظ الشعر و لست ممن يهتمون به " تداركت الموقف و قلت " لا بأس في ذلك ، فللناس فيما يعشقون مذاهب " اعتدلت في جلستي ، و استجمعت قواي و استرسلت " أظن أنك تهتم بأحد الأجناس الأدبية كالنقد مثلا " أجاب " و لا ذاك مما يستهويني " حينئد ابتسمت له ابتسامة ذات حدين ، و أشحت ببصري عنه ، و عدت أتصفح الجريدة لا حبا في القراءة و انما جعلتها وسيلة لاظهار انشغالي عنه ، لأن نفسي اشمأزت من لغوه ، أخذت أنظر من نافذة الحافلة الى الحقول المترامية الأطراف و الأسى يمزق أوصالي على ما آل اليه حال شبابنا ، الذي سخر كل طاقاته في سفاسفة الأمور و التافه من المعرفة ، حتى انحط ذوقه و تبلد حسه و تصلبت أوتاروجدانه ، و الغريب في الأمر أنك لو سألته القاعدة التي رسمت له حدود التذوق و معايير الافتتان ، حتى انغمس في وحل الدناءة والركاكة ما استرحت منه الى جواب ، و الحق أنه كما يقال " فاقد الشيء لا يعطيه " ، فماذا تنتظر من شباب يجهل عن لغته الكثير ان على مستوى قواعدها النحوية و الصرفية ،أو عن بلاغتها و بيانها و جمالية تعابيرها نثرا كانت أم شعرا ، لا شك أن تذوقه يساير نتاجه المعرفي و بذلك لن يرقى الى مستويات سامية نبيلة في مجالات الفنون التعبيرية، بل يكتفي بما هو أهل له و لفهمه القاصر و هو ذلك المبتذل الساقط المتطفل على الفن في زمن غاب الفن و حل العفن ، و الأدهى و الأمر اذا كان متذوقه محسوبا على النخبة المثقفة كما هو الشأن لدى صاحبنا . تنهدت و أخرجت زفير المرارة على ما آل اليه الفن و الثقافة، غطيت وجهي بالجريدة و رحت في سنة أسترجع ذكريات الأمس القريب حين كان الطالب الجامعي يقام له و يقعد ، حافظا لأشعار القدامى و المحدثين ، ضابطا لألفية ابن مالك ، ملما باللسانيات ، ناقدا محللا مبدعا في كل صنوف الآداب ، مفيدا مؤنسا في مجالسته ... بعد صبر طويل و لأي مرير وصلت الحافلة أخيرا ، نزلت منها مهرولا كأن شيئا ما يطاردني ، ركبت سيارة أجرة وذهبت لقضاء مآربي ...؟؟؟

                 💼 الكاتب " زايد وهنا "💼

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق