✏ وليد صالح الخليفة ✏
قد يعشق المرء الشيء ، فينجذب إليه ، و يولع به ولعا شديدا حتى يصير متيما و لهانا يهيم بحبه ، و هو الأمر الذي حدث بيني و بين معشوقتي اللغة العربية منذ أيام الدراسة الأولى ، و لعل شغف قراءة الكتب و القصص
و المجلات في تلك السن كان لها أكبر الأثر في وضع الحجر
الأساس لهذه العلاقة الغرامية و التي أخذت تنمو و تتوطد سنة بعد أخرى ، و شاء لها القدر أن تصادف رجلا توج مسيرتها علما و معرفة و وضع على رأسها إكليلا من إبريز صارت تحمله في زهو و اعتداد ، و ظل بريقه يخلب المهج
و الألباب ، كما ظلت صورة صاحب الفضل فيه عالقة بالأذهان . هذا الرجل هو السيد الفاضل
" وليد صالح الخليفة " من العراق
أستاذي في مادة اللغة العربية بمركز تكوين المعلمين بالرشيدية .
و الصراحة أنه مهما حاولت أن أقول لن أستطيع أن أوفي هذا الرجل حقه ، فهو وبكل صدق و موضوعية موسوعة في اللغة العربية و آدابها ، نثرها و شعرها ، قديمها و حديثها في النحو و البلاغة و الخط و كل ما يحوم في فضاء اللغة العربية ، هو الخبير الجهبد الذي لا يشق له غبار في هذا المجال .
كان يدرسنا و كنت أتمنى أن يطول الوقت معه ، لأنني كنت أجد في تلقينه متعة لا تضاهيها متعة ، تنساب اللغة من فيه انسياب الشهد من الجبح ، يدعم الأفكار باستشهادات من القرآن و السنة و سير القدامى ، يأخذ بلبك و يسافر بك في
الأزمنة و الأمكنة ، فينسيك كل شيء من حولك ، فتشعر
و كأنك تعيش في زمن و بيئة ذاك الشاعر أو ذاك الكاتب ، يتناول النص بالتحليل ، فتتجلى لك معاني النص و تستمتع ببلاغته ، فيرتقي فهمك و ذوقك .
أقول بكل تواضع أن هذا الأستاذ كان يلاحظ ميولي و عشقي للغة العربية من خلال انتباهي و تجاوبي معه مما تحتفظ به ذاكرتي من الرصيد السابق ، و هذا ما نال إعجابه بي ، و لم نكد نستفق من سكرة الأدب حتى انتهت سنة التكوين
و التحق كل منا بمقر عمله ، و من طريف الحديث أن أستاذنا هذا أمدنا بمجموعة من القصائد انتقاها من عيون الشعر العربي ، و من جملة تلك القصائد قطعة شعرية جميلة للشاعر العراقي " حسن المرواني "
بعنوان " أنا و ليلى و اشطبوا أسماءكم "
و بعد مدة سمعتها مغناة من طرف المغني " كاظم الساهر "
فتعجبت و أعجبت بها خصوصا و أنا أحفظها عن ظهر قلب ، فقلت في نفسي سيكتب الخلود لهذه القصيدة خصوصا بعد أن أصبحت أغنية تتداولها الألسن .
قبل أن أتطرق لسيرة هذا الأستاذ الكبير ، اتصلت مع أحد أصدقائه المقربين بالرشيدية ألا و هو السيد الفاضل
" محمد حجاجي" مفتش التعليم سابقا و المتقاعد حاليا ،
و أطلعني على أمور أخرى في مسيرة السيد "وليد صالح الخليفة " بعد مغادرته للرشيدية ، و هذا ما قاله السيد حجاجي من غير زيادة و لا نقصان :
" الأستاذ وليد صالح الخليفة، من أطيب خلق الله أخلاقا وقيما إنسانية نبيلة، ومعرفة وعلما وتواضعا وتواصلا إنسانيا دافئا... بعصامية لافتة جدد حياته بإسبانيا بعد مغادرته المغرب فتعلم الإسبانية وأحرز شهادة الدكتوراه التي أهلته للتدريس بجامعة مدريد المستقلة التي رأ س قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بها إلى أن أحيل على المعاش وأقامت له الجامعة حفلا تكريميا كبيرا لا تقيمه للإسبان الأصليين، اعترافا بكفاءته ومعارفه وأخلاقه وقدرته الفائقة على التواصل الإنساني مع الجميع.
عاشق للمغرب والمغاربة وإقليم الرشيدية على الخصوص. غادر المغرب مكرها، ويتردد عليه باستمرار، آخر مرتين زار فيهما الرشيدية: 2018 و2022.
لك أجمل التحايا وأعطر المتمنيات."
على هذا الرابط، معلومات عنه في ويكيبيديا:
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%AF_%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%AD_%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%81%D8%A9
انتهى كلام السيد محمد حجاجي .
و عند تصفحي للرابط وجدت هذه المعلومات
و نقلتها كما هي للمزيد من الإيضاح خصوصا لمن يهمهم الأمر .
الأستاذ : وليد صالح الخليفة
ولد بالعراق سنة 1951. حصل على شهادة البكلوريوس في اللغة والأدب العربيين من كلية التربية بجامعة بغداد سنة 1972. عمل مدرساً في عدد من الثانويات والمعاهد العراقية. غادر العراق سنة 1978 واستقر بالمغرب حيث مارس التعليم في المدارس العليا للمعلمين بأكثر من مدينة. يقيم في إسبانيا منذ سنة 1984، حيث أنجز دراسته العليا ونال شهادة الدكتوراه من جامعة أوتونوما بمدريد سنة 1990. مارس التعليم في العديد من مراكز التعليم والجامعات الإسبانية. كما تم تعيينه من قبل وزراة الخارجية الإسبانية كمترجم محلف في 14 مايو 1992.[1] يعمل حالياً أستاذاً للدراسات العربية الإسلامية بقسم الدراسات العربية والإسلامية بجامعة أوتونوما بمدريد. وقد رئس هذا القسم ما بين سنة 2002 و2005.
ختاما كانت تلكم التفاتة لرجل ترك بصمة واضحة المعالم في أذهاننا ، و من لا يشكر الناس ، لا يشكر الله ، أطال الله في عمره و عمر صديقه السيد
محمد حجاجي ، و أدام المحبة بينهما ، وجعل عملهما خالصا لوجهه و السلام عليهما و على القارئ .
✏ بقلم زايد وهنا ✏
جواب وليد صالح
كان هذا ردا من أستاذي وليد صالح الخليفة على
المقال الذي كتبته عنه .
الأخ الكريم والأستاذ الفاضل السيد زايد وهنا:
اسمح لي أولا أن أنقل لك شعوري بالفرح والامتنان لما ذكرته عني ودونه قلمك بلغة شفافة وروح طيبة تنم عن رقي الخلق الذي يحضك على الوفاء والاخلاص لأصدقائك وأساتذتك، وكل هذا جدير بالتقدير والاحتراام والاعتزاز. صدقا أنا لم أكن أتوقع بعد أربعين عاما من خروجي من مدينة الرشيدية القريبة من نفسي أن يصلني هذا الثناء والتكريم من أحد طلابي الأعزاء. لا أخفيك سرا لو قلت لك بأنني طيلة حياتي المهنية التي اقتصرت على التربية والتعليم كنت أعتبر الطلاب أثمن رأس مال للعملية التربوية. فهم الأساس وهم المعنيون وهم الهدف من كل جهد تعليمي ولولاهم لما وجد المعلمون ولا المربون. ولكوني مقتنعا بأن التعليم مهنة نبيلة فلم أرض عنها بدلا على الرغم من توفر الفرص. وماذا أقول عن لغتنا العربية الزاهية التي نجتمع على حبها وتثمينها. لغة ثرية عذبة في رنينها، غنية في مفرداتها، دقيقة في دلالاتها ومفاهيمها، متناسقة في حروفها وألفاظها، فهي في منتهى الجمال وغاية الكمال. إنها البيان والايجاز معا.
قال عنها الشاعر السوري سليمان العيسى:
أنا ما برحت تألقا وسنى لغة العروبة والبقاء أنا
وماذا عساي أن أقول بحق صديق عزيز وأخ كريم وأستاذ متميز مثل السيد محمد حجاجي الذي كان لي ولا يزال بمثابة الأخ حيث بعُد الأخوان وعائلته بمثابة الأهل حيث حالت ظروف الحياة بيني وبين الأهل في العراق الساكن في القلب. حجاجي الأديب المرهف لم يقتصر كرمه على بذل مشاعر الأخوة فحسب بل كان كريما في علمه، إذ ليس لي أن أنسى كم من كتب مكتبته قرأت وكم تعلمت من معارفه الغزيرة. أما المغرب فهم بلدي الثاني الذي استقبلني في مرحلة صعبة من حياتي وأكرمني ووفر لي سبل العيش الكريم، وأدركت من خلال فترة التعايش الطويلة كم هو أصيل بشعبه وتراثه وتأريخه. كنت أقول لأصدقائي حينها لو شاءت الظروف وأخرجوني قسرا من هذا البلد سأموت موت السمكة التي تُسل من الماء. وقُدر لي أن أذوق مرارة الإبعاد عن هذا البلد الحبيب، لكن حبي له ولشعبه لم ينقص بل زاد متانة وقوة. إنها سنة الوفاء التي تُنشد من كل كائن حي.
كثيرا ما أتذكر أبيات شاعري المفضل السياب في قصيدة "وصية من محتضر" والتي يقول فيها:
أنا ميت لا يكذب الموتى وأكفر بالمعاني
إن كان غير القلب منبعها
فيا ألق النهار
أغمر بعسجدك العراق
فإن من طين العراق جسدي
ومن ماء العراق.
وأنا الذي عشت في العراق وفي المغرب وإسبانيا، يمكنني أن أقول وعذرا للسياب:
"فإن جسدي من ماء وطين العراق والمغرب وإسبانيا.
أرى ذلك واجبا عل ي من باب الوفاء وعرفان الجميل وشكر العديد من رجال ونساء هذه البلدان الثلاثة والذين لقيت منهم العون والمساعدة لتجاوز مشاق الحياة.
أما عن قصيدة "أنا وليلى" للشاعر الصديق حسن مرواني التي تذكرها في رسالتك، أخي زايد، فقصتها تطول أوردها فيما يلي:
يقول المثل: "زهرة واحدة لا تصنع الربيع". لكنني أضيف أن قصيدة عصماء واحدة يمكن لها أن تصنع شاعرا، خاصة إذا كانت بمستوى "أنا وليلى" .
عام 1970 عندما كنت طالبا في السنة الثانية من قسم اللغة العربية بكلية التربية في جامعة بغداد كان لي زميل يدعى حسن المرواني. إنسان مؤدب وخجول وقليل الكلام. علمت من بعض الزملاء بأن المرواني كان يحب زميلة لنا في القسم حبا افلاطونيا والتي لم تعلم بحبه لها إلا بعد زمن. حدثها بعد ذلك بما يجيش به صدره من مشاعر نحوها وقرر أن يطلب يدها من عائلتها التي تنتمي إلى طبقة عالية من المجتمع، على خلاف عائلة المرواني المتواضعة. جاءه الجواب بالنفي فشعر بالإحباط والحزن الذي دفعه لكتابة هذه القصيدة التي لم نعلم بها إلا في مهرجان الشعر الذي قامت كليتنا بتنظيمه في ربيع ذلك العام. ففي ذلك اللقاء وبعد الاستماع إلى الكثير من قصائد الطلبة صعد المرواني إلى المنصة وبدأ بقراءة قصيدته. صُدم الجمهور بمتانة أبياتها وقوة أسلوبها وجمال معانيها وكان الطلاب يهتفون ويصفقون بعد سماع كل بيت من أبياتها. وبعد انتهاء المهرجان تم نسخ القصيدة وتوزيعها على طلاب الكلية. وفي اليوم التالي دُعي المرواني لالقائها في إحدى إذاعات بغداد وانتشرت شهرته سريعا على مستوى العراق كله. وبقيت قصيدة "أنا وليلى" يتيمة أو لنقل دون أخوات.
بعد تخرجنا من الجامعة م رت الأعوام وفقدت الاتصال بالمرواني وت م تعييني مدرسا للغة العربية في ثانوية "طوزخورماتو" في شمال العراق. فوجئت بزيارة حسن لي في تلك المدينة وأخبرني بأنه تم تعيينه في قرية قريبة من مدينتي. كان يزورني في المنزل بين الحين والحين حيث كنت أسكن مع أساتذة آخرين يعملون في طوزخورماتو وتسكن عوائلهم في مدن أخرى. وفي إحدى الليالي كنا مجتمعين على العشاء ومعنا الصديق المرواني. طلب منه بعض الزملاء أن ينشد أبيات قصيدته. ألقاها وسط تصفيق وإعجاب الحاضرين وقمت بتسجيلها على شريط كاسيت ما زلت محتفظا به حتى اليوم.
وبعد خروجي من العراق عام 1978 فقدت من جديد الاتصال بالمرواني. أقمت بالمغرب العزيز حتى سنة 1984 ثم انتقلت إلى إسبانيا. وفي أحد الأيام من عام 1998 كنت أستمع لإذاعة بي بي سي اللندنية وكانت المذيعة تجري مقابلة مع المطرب العراقي كاظم الساهر. تحدث عن ألبومه الجديد والذي سماه على اسم قصيدة المرواني حيث ضمنه أغنية بهذا الاسم. تذكرت صداقتي بحسن المرواني والأيام التي قضيناها سوية في الجامعة وفي مدينة "طوزخورماتو"، ولم أكن أعلم عنه شيئا إن كان ما يزال يعيش في العراق أم لا أو أنه زاد على قصيدته تلك قصائد أخرى أم لا.
وعلمت بعدها من خلال الصحافة العربية بأن الساهر كان يبحث عن المؤلف الحقيقي لقصيدة "أنا وليلى" لأن العديد من الأشخاص وخاصة من المقربين من السلطة ادعوا بأن القصيدة من تأليفهم كي يحصلوا على حقوق التأليف. فكتبت حينها مقالا مفصلا أتحدث فيه عن صاحب القصيدة وظروف انتشارها وصلة الصداقة التي تربطني بالمرواني. ونُشر المقال في صحيفة الزمان اللندنية. وبعد ذلك بشهور قامت الصحيفة المذكورة باجراء لقاء مطول مع حسن المرواني يتحدث فيه عن ملكيته لحق تأليف القصيدة ويشكر هؤلاء الذين أكدوا على حقيقة تأليفها ونسبتها له ويقدم خلال ذلك اللقاء شكره لي بشكل خاص لدفاعي عن الحقيقة. وعلمت من خلال ذلك اللقاء بأن المرواني كان آنذاك مقيما في ليبيا حيث كان يعمل أستاذا للغة العربية في إحدى المؤسسات. ثم علمت بأنه قد عاد للعراق بعد تغيير النظام السياسي السابق في 2003 وأصيب بعدها بجلطة في الدماغ شلت نصف جسده. أتمنى له الشفاء وطول العمر. وعلمت أيضا بأنه لم يكتب بعد "أنا وليلى" سوى بعض القصائد القليلة التي لا تضاهي قصيدته العصماء هذه.
هذا كما يقال غيض من فيض أستعيد خلاله بعض الذكريات الحلوة منها والمرة لسنوات مضت في العراق والمغرب وفي إسبانيا التي أقيم بها حاليا.
الشكر الوفير للأخ العزيز السيد زايد وهنا وللأخ والصديق حجاجي محمد، متمنيا للاثنين الصحة
والسلامة والازدهار والتوفيق.
وليد صالح
مدريد في 4 مارس 2023